سجال حول ظاهرة «المنفى الضريبي»... وأولاند يدين الماضي الاستعماري اتهامات لليسار الفرنسي الحاكم بتحويل البلاد إلى جحيم ضريبي، وردود الفعل على زيارة أولاند هذا الأسبوع إلى الجزائر، ومأزق اليابان الاقتصادي الراهن، ثلاثة موضوعات استقطبت اهتمام الصحافة الفرنسية. المنفى الضريبي شهد هذا الأسبوع إعلان الممثل الفرنسي الشهير جيرار ديبارديو أنه قد قرر أخيراً التخلي عن جنسيته، وتسليم جواز سفره وتأمينه الصحي، والعيش نهائياً في بلجيكا، احتجاجاً على إجحاف الضرائب الباهظة التي يدفعها في بلاده الأصلية فرنسا، وقد فتحت هذه الواقعة شهيه معظم الصحف الفرنسية لمهاجمة قرار الممثل لما فيه من خيانة للوطن، أو لجعل هذه الواقعة مادة دسمة وذريعة لنقد اليسار الفرنسي الحاكم، على تحويله البلاد إلى ما يشبه جحيماً ضريبياً، لا يطاق. وضمن هذا التيار الأخير جاء مقال بعنوان «هجرة ديبارديو: علامة على حجم عصبية فرنسا»، للكاتب اليميني «إيفان ريوفول» في صحيفة لوفيغاوو، قال فيه إن اليسار الحاكم يسمح لذاته بكل شيء. فهو يضع نفسه في موقع من يحدد معايير الأخلاق، ويدين الناس بشكل مسبق، وخاصة إذا كانوا من خصومه. ولكن لماذا استدامة هذه الحالة؟ إذا كانت هنالك نهاية قريبة للعالم، مثلما تحدث عن نبوءة قديمة بذلك في 21 ديسمبر الجاري، فإن العالم قد انتهى سلفاً بالنسبة للاشتراكيين. لقد فقدوا التواصل مع الواقع، منذ زمن بعيد، وأصيبوا بالعجز الإدراكي وعدم الإحساس بأحوال الطبقة العاملة. أما صحيفة ليبراسيون فقد فتحت أول من أمس الجمعة ملف هذه القضية مركزة على جوانبها الإخبارية والتحليلية دون تأطيرها في سياق السجال الحزبي بين اليسار الاشتراكي الحاكم وخصومه في المعارضة، وفي هذا المقام نقلت الصحيفة تصريحات الرئيس أولاند وتأكيده على أن من يحب فرنسا حقاً عليه أن يتفانى في خدمتها، كما أوردت إعلانه الامتناع تحديداً عن التعليق على واقعة الفنان المهاجر، وتصريحات فنانين آخرين أطلقوا كلاماً في هذا السياق. وقد أكد أولاند أنه لا يجد نفسه مضطراً للتصريح رداً على أي كلام يقال، وخاصة إذا كان صادراً من فنان يعتبر نفسه من المعجبين بهم. ومن جانبها اكتفت صحيفة لومانيتيه الشيوعية بنقل موقف حزبها من هذه الواقعة مؤكدة أن فرنسا بدأت تواجه الآن ظاهرة ما يمكن تسميته بالمنفى الضريبي، فبعد برنار آرنو، صاحب أكبر ثروة في البلاد، ها هو الدور يأتي الآن على «جيرار دوبارديو» الممثل الفرنسي، الأغلى أجراً، لكي ينتقل هو الآخر إلى بلجيكا مفضلاً ضخ ضرائبه في خزينتها. وهذه العدوى المثيرة للقلق يبدو أنها ستأخذ منذ الآن منحى متصاعداً تتقلص معه مداخيل الخزينة العامة الفرنسية. ولاشك أن هذا المنفى الضريبي يكون أكثر وقعاً على النفس عندما يأتي من فنان يحبه كثيرون. وإن كان هذا الموقف، بطبيعة الحال، يخصم أيضاً من رصيده في القلوب. سلام الذاكرة تزامناً مع زيارة أولاند التاريخية، هذا الأسبوع، إلى الجزائر نشرت صحيفة لوموند تحليلاً سياسياً بعنوان «سلام الذاكرة يبنى من قبل الطرفين» قالت في بدايته إن الحقائق تكون أحياناً سيئة ومُرة بالنسبة للرجال، وكذلك بالنسبة للدول. فقد مر أكثر من نصف قرن لكي يعترف الرئيس الأسبق شيراك بمسؤولية الدولة الفرنسية عن معاناة اليهود المطرودين خلال مآسي العهد النازي. وقياساً على ذلك مر الآن أيضاً وقت طويل قبل أن يأتي رئيس فرنسي آخر هو أولاند، لكي يعترف علناً ببعض أوجاع وندوب الذاكرة والتاريخ بين الجزائر وفرنسا، محاولاً تهدئة تلك الأوجاع والندوب العميقة. وقبله لم يجرؤ أي من الرؤساء السابقين على عبور هذا الخط نحو الاعتراف بالحقيقة. وفي سنة 2005 أثار تشريع برلماني يتحدث عن «الطابع الإيجابي للاستعمار» جدلاً واسعاً وجمّد بسببه اتفاق صداقة بين البلدين. وفي 2007 تحدث ساركوزي في الجزائر عن الطابع «غير العادل» للاستعمار الفرنسي، ولكنه سارع للتكفير عن هذا التعبير عند رجوعه إلى باريس، حين بادر باستقبال وفد من «الحركيين» (وهم عملاء فرنسا السابقون في الجزائر الذين هرب كثير منهم إليها بعد الاستقلال). أما أولاند فتحدث بعبارات واضحة تنتقد منظومة الاستعمار، والمظالم العميقة والعارمة التي رافقتها، حسب وصفه يوم الخميس الماضي أمام البرلمانيين الجزائريين. ولم يتردد في إدانة «المعاناة التي فرضت على الشعب الجزائري»، و«العنف، والظلم، والمجازر.. والتعذيب، التي انتهجها ذلك النظام» الاستعماري. والحال أن هذا هو أقل ما يمكن قوله عن ذلك التاريخ المرير الذي استمر على امتداد 132 عاماً. ويكفي للتذكير بذلك الاستعمار حجم المعاناة في سنوات الغزو الأولى، فبين سنتي 1830 و1860 خسرت الجزائر ثلث سكانها، وطيلة العقود اللاحقة كانت أبسط انتفاضة تقمع بعنف أعمى وعارم، وصولاً إلى مكابدات الثورة الجزائرية، التي استمرت ثماني سنوات وكانت «حرباً» حقيقية، وإن لم يتم الاعتراف بذلك إلا سنة 1999 أي بعد أكثر من 37 سنة على استقلال الجزائر. وما وقع هذا الأسبوع، تقول الصحيفة، يرقي إلى أن يكون نوعاً من «سلام الذاكرة»، بين البلدين، قياساً على عبارة ديغول الشهيرة «سلام الشجعان». ولسلام الذاكرة هذا كثير من الأسس الإنسانية القوية التي يمكن بناؤه عليها. وهنالك عدد هائل من الفرنسيين المرتبطين بالجزائر بأصول أو بذكريات وعلاقات إنسانية سابقة. ومن هنا يمكن القول إن فرنسا، ممثلة في رئيسها، قد قطعت الآن الخطوة الأولى من جهتها على طريق تعديل اختلالات العلاقة وتحويلها إلى صداقة قائمة على أسس متينة من التعاون والشراكة والاحترام المتبادل. ويبقى على الجزائر أن تقطع هي أيضاً جانبها من الجزء المتبقي على هذا الطريق، تقول الصحيفة. وفي سياق متصل كتب جان- بول بييرو افتتاحية لصحيفة لومانتيه تحت عنوان «موعد في الجزائر» تساءل في مستهلها إن كان أولاند سيتمكن حقاً من استغلال الفرصة السانحة الآن لإعادة ترميم العلاقة مع الجزائر؟ فقد مرت الآن خمسون سنة على تلك الحرب الطاحنة التي استغرقت ثماني سنوات، أخفقت خلالها السلطات الفرنسية في استقبال رسالة الشعب الجزائري وحجم تطلعاته للتخلص من النظام الاستعماري القديم. والمؤسف أنه يوجد اليوم أيضاً رجال سياسة، وليس مجرد أشخاص عاديين، ما زالوا لا يبدون أية رغبة في استخلاص درس، أو فهم شيء، وهم لذلك يتجاهلون مرارات تجربة القوة الاستعمارية المهزومة. وفي الأخير يتساءل الكاتب، على وجه التمني، عما إن كان قد انفتح أخيراً باب للتعاون والشراكة بين البلدين وقد باتا ينظران الآن بوضوح إلى مظالم التاريخ، وهما بلدان يجمع بينهما الكثير، حتى لو كان البحر الأبيض المتوسط يفصل بينهما عملياً. تحديات اليابان أثارت صحيفة لوموند بعض التحديات التي تواجه اليابان الآن، وذلك في مقال بعنوان «اليابان من هيروشيما إلى فوكوشيما» استدعت فيه بعض لحظات التحدي والفناء المصيرية التي واجهها اليابانيون عندما قصفت بلادهم بقنبلة هيروشيما -وناكازاكي- النووية بالأمس البعيد، وعندما واجهوا أيضاً كارثة فوكوشيما النووية في الأمس القريب، مقارنة في هذا الصدد بين طرق الاستجابة التي عملت بها الطبقة السياسية لمواجهة التحديين وما بعدهما، مؤكدة أن الاستجابة لكارثة فوكوشيما الأخيرة خاصة قد أثارت لدى اليابانيين أزمة ثقة حقيقية في كفاءة مؤسساتهم. وزاد الأمور سوءاً تراجع الاقتصاد الياباني نفسه، بعد أن فقد بعض الألق بما لا يقارن مع قصة صعوده الهائلة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ومعدلات نموه الاستثنائية، حيث كان الناتج المحلي الخام يتضاعف كل عشر سنوات. والحال أن عقد التسعينيات كان هو الأكثر سوءاً في تاريخ اليابان منذ أن أصبحت قوة رأسمالية صناعية كبرى. فقد كان ذلك العقد بالنسبة لها بمثابة «عقد ضائع». وطيلة الفترة اللاحقة ظلت العثرات الاقتصادية محسوسة، وإن بصور وأشكال مختلفة. وعندما جاءت كارثة تسونامي وفوكوشيما كانت معدلات نمو الاقتصاد ضعيفة للغاية، مع تراجع معدلات الدخل ومستويات المعيشة. ومنذ ذلك الوقت لم يسترد الاقتصاد عافيته. وكل هذه التحديات هي ما يتعين على الزعامة الجديدة مواجهته، وإيجاد الاستجابات المناسبة الكفيلة باحتوائه. إعداد: حسن ولد المختار