قبل قرابة العام، أصدر المفكر المغربي المعروف طه عبدالرحمن كتاباً في فلسفة الدين بعنوان: «روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية». وكتاب د.عبدالرحمن نادر المثال أو المثيل بالعربية، إذ قلمّا كتب المفكرون العرب في المائة عام الأخيرة في فلسفة الدين. وعندما كنا ندرس بالأزهر في الستينيات، وكان من ضمن المقرر بقسم الفلسفة بكلية أصول الدين مادة فلسفة الدين، قرر العميد الدكتور عبد الحليم محمود -رحمه الله- علينا إلى جانب كتاب الشيخ محمد عبدالله دراز: النبأ العظيم- كتاب: إرادة الاعتقاد لوليم جيمس من ترجمة أزهريٍّ آخر اسمه الدكتور محمود جُبّ الله. وفي العقدين الأخيرين، عادت الكتب والنظريات عن الدين مع تصاعد الثوران في سائر الأديان، وبخاصة البروتستانتية والإسلام. لكنّ المفكرين العرب ما اهتموا رغم ذلك بفلسفة الدين باستثناء كتاب مدرسي للبناني هو أديب صعب. أما الإسلاميون منهم فلا يهمهم من الدين غير السلطة التي يتيحها ركوبُ ناقته، وأما العلمانيون فما يزالون غارقين في التمدُّح بالعلمانية الفرنسية التي أقصت الدين عن المجال العام! لقد قدّمتُ بهذا الاستطراد للتأكيد على أهمية كتاب د. طه عبد الرحمن: روح الـدين. بيـد أنّ الكتاب يتضمّن من وجهة نظري مشكلةً كبـرى. فالدكتور عبد الرحمن يعتقد أنّ الدين إنما أُنزل لإدارة الشأن الإنساني كلّه ومن ضمن ذلك الشأن العام وليس الفردي أو الخاصّ وحسب. وهو يستند في ذلك إلى أمرين اثنين: النزعة التسيّدية التي تستعلي في الإنسان ولا تكسرها إلاّ الأخلاق التزكوية للدين- والتجربة السلبية للعلمانية الغربية والفرنسية على الخصوص، والتي أَخرجت الدين من الدولة وتوشك أن تُخرج تأثيراته من المجتمع، مما تسبَّب بشقاء الإنسان العصري، واستعلاء مختلف السلطات عليه! لا يريد عبد الرحمن أن يأتي حزب دينيّ أو باسم الدين فيتولى السلطة، بل يريد إخراج تأثيرات العلمانية الغربية من دولنا ومجتمعاتنا، لكي يعود الدين فيؤدّي دوره من طريق ما سمّاه بالأخلاق التزكوية. ولكي لا يبقى شكٌّ في«نواياه» فقد كتب فصلين، أحدهما في الردّ على دُعاة تطبيق الشريعة، والآخر (وهو أطول) في الرد على دُعاة ولاية الفقيه. لكنني أزعُمُ ثلاثة أمور: أنّ الإسلام ما أُنزل لتدبير الشأن السياسي بأوامر مباشرة، وأنه باعتباره ديناً معنيّاً بالشأن الإنساني كلّه، إنما بطرائق متنوعة بين مجال ومجال، وأنّ ما يحصل في عالم الإسلام اليوم يشكل خطراً على الدين وهو لا يأتي من جانب العلمانية. فالدين الإسلامي يتضمن عقائد وعبادات وأخلاقاً وأحكاماً وقواعد أو أُصولاً جامعة والعقائد داخلة في الإيمان، والعبادات مفروضة ومترتبة على الإيمان. والأخلاق منظومة مترتبة على العقائد والعبادات. وهي التي من طريق تأثيرها في الأفراد تؤثِّر بالفعل في تطبيق الأحكام والقواعد العامة التي تسود في الحياة العامة للجماعة. فالذي أُريد أن أقوله إنّ العقائد والعبادات والأخلاق التزكوية (المؤمنة بالأحكام والقواعد) موجودةٌ بالفعل في مجتمعاتنا. أمّا إدارة الشأن العام، فهي حقُّ هذه المجتمعات المؤمنة والتي تحتضن القرآن والإسلام. وهي عندما تتجه لإدارة شأنها العام، لن تخرج على دينها وأخلاقها: فلماذا الخوف على الدين من المجتمعات الإسلامية وإنْ تحت عنوان الخوف من العلمانية أو العلمانيين الذين يسودون في الدول والمجتمعات؟! إنّ الطريف أنّ هذا الخوف من المجتمعات ساد في الحِقَب الماضية لدى الإسلاميين ولدى العلمانيين. والآن يحاول الإسلاميون استغلال العواطف الدينية للجمهور للاستيلاء باسم الإسلام على إدارة الشأن العام. كان الإسلاميون يقولون إنّ الجمهور غير مهتم بتطبيق الشريعة غفلةً وجهلاً أو كفراً. وهم يحتجون الآن على خصومهم السياسيين بأنهم إنما يريدون الوصول للسلطة لتطبيق الشريعة لأنّ هذه هي إرادة الأكثرية الساحقة من الناس! فأين هو تأثير العلمانية والدنيوية التسيُّدية على هذا الجمهور؟! إنّ الصحيح القول إنّ دين الناس سائدٌ وكاملٌ منذ قوله تعالى: « اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا». بينما يقول الحزبيون أو المتحزبون باسم الدين إنّ الدين ( أو الشريعة) غير مطبَّق، وإنهم إنما يريدون الوصول للسلطة لتطبيقه على الناس وفي المجتمعات! وبذلك ينتجون وهماً يحكمون باسمه، ويشكّكون في أديان الناس وشرائعهم وحقوقهم وحرياتهم، ويسلّمون السلطة الدينية للسلطة السياسية، والاستبداد الديني أفظع بكثير من الاستبداد العلماني أو الطغياني، لأنه يدعي امتلاك العصمة والمقدَّس. والشبان الذين ثاروا عام 2011 في عدة دول عربية، ما ثاروا بسبب قلة الدين لدى هذا الرئيس أو ذاك؛ بل إنما ثاروا لإصلاح إدارة الشأن العام. وها هم الإسلاميون في السنة الأولى لتجربتهم يسيئون الإدارة، ويُسرفون في استغلال الدين، ويمارسون القمع ضد أولئك الذين أطلقوا الثورات التي وصلت الأحزاب الدينية إياها للسلطة بواسطتها! ولنعد إلى الإسلام وإدارة الشأن العام. لستُ أرى أنّ الجدال فيما يقوله الفقهاء والمفسِّرون القُدامى أو لا يقولونه مفيدة في فهم موقف الإسلام من حقوق المواطنين وواجباتهم. فالمجتمعات الحديثة القائمة على مبدأ المواطنة والمساواة المطلقة في ظلّها، مختلفةٌ جذرياً عن المجتمعات الوسيطة ومفاهيمها في عالم الإسلام كما في عالم المسيحية. ولسنا خارجين الآن من عالم العصور الوسطى، وإنما عندنا تجربة بل تجارب جديدة وحديثة على مدى قرن ونصف القرن وأكثر. وقد جربنا خلالها الدولة الدينية، والدولة الاستبدادية العلمانية، والدولة الطغيانة بدون هوية معروفة! ولدينا دولتان دينيتان أصوليتان في عالم الإسلام اليوم وهما دولتا إيران والسودان، فهل هذه التجربة حقيقة بالتقليد والاتّباع؟! لكنْ لنعد على سبيل التأمل والمقارنة إلى مقولة ضرورة الدين للدولة بحسب د. طه عبد الرحمن. في ميراثنا نحن أهل السنة أنّ الإمامة أساسُها الإجماع، والاختيار. وقد قال الفقهاء إنّ الشريعة معنيةٌ بضرورات أو مصالح خمس لضمان البقاء والازدهار الإنساني، وهي: النفس (=الحياة)، والعقل، والدين، والنسل والمِلْك. والمفروض أنّ هذه المصالح الأساسية هي الجذر الظاهر للأخلاق التزكوية التي تحدث عنها د. عبد الرحمن. ولذا فإنّ المسلمين في عملهم من أجل إنتاج إدارة صالحة للشأن العام، سوف تكون هذه المصالح نُصْب أعينهم، ولا يحتاجون إلى حزب ديني يفرضها عليهم بحسب الاجتهاد السلطوي هذا أو ذاك. ومن الجليّ أنّ هذه المصالح لا تتحقق بمذهب سياسي معين إلهي أو غير إلهي، وإنما الاعتماد في ذلك على الشراكة والتجربة والرقابة والتغيير والتطوير المستمر، وهي تجارب ونظم إنسانية عامة، لا يختصُّ المسلمون من حيث طبيعة إنسانهم، ولا من حيث عقولهم بشيء خاص بشأنها. أما خصوصيتهم الأخلاقية، فعليها الاعتماد في إنتاج النظام الأفضل أو الأكثر ملاءمةً لأحوالهم من ضمن النظم الموجودة في العالم. أما القول بالنهج الإلهي المتفرد في إدارة الشأن العام، والذي لا يُحْسِنُهُ غير هذا الحزب أو ذاك، فهو أمرٌ ما ادّعاه المسلمون قديماً، وادعاؤه من جانب الأحزاب الإسلامية اليوم هو احتيالٌ على الدين قبل أن يكون احتيالاً على الناس!