منذ أربعة عشر عاماً، ذهبتُ إلى مدينة بيت لحم، ضمن وفد مرافق للرئيس الأميركي في ذلك الحين بيل كلينتون، الذي شارك في إضاءة شمعة عيد الميلاد في «ساحة المزود» الشهيرة. وقد كان بإمكاننا، ونحن واقفون في الساحة مشاهدة جزء من مدينة القدس من بين التلال الخضراء التي يطلق عليها «جبل أبوغنيم». في ذلك الوقت كان الإسرائيليون قد أعلنوا عن خطط لبناء مستوطنات جديدة على هذه الأرض وهو ما عارضه كلينتون. وعلى رغم تلك المعارضة إلا أنه كان بإمكاننا مشاهدة «البولدوزرات» وهي تسوي الطرق تمهيداً لأعمال التوسع. واليوم أصبح «جبل أبو غنيم» الذي كان في السابق جزءاً من مدينة بيت لحم يسمى «هار هوما» وهو اسم مستوطنة إسرائيلية يقطنها ما يزيد على 17 ألف إسرائيلي، وهذه المستوطنة، إلى جانب عدد آخر من المستوطنات والحواجز تبلغ في الإجمالي 19 مستوطنة وجداراً خرسانياً سميكاً ارتفاعه 30 قدماً، ستفصل بيت لحم عن القدس وتخنق المدينة الصغيرة وتعوق نموها وقدرة سكانها على ممارسة التجارة بشكل طبيعي. ولاشك أن الإعلان الصادر عن إسرائيل مؤخراً بأنها ستبني 6000 وحدة سكنية في تلك المستوطنات، كما ستنشئ مستوطنتين جديدتين في المنطقة الواقعة حول القدس، قد أثار قلقاً شديداً في بيت لحم، ذلك لأن هذا التوسع الاستيطاني عندما يكتمل، سيقطع بيت لحم تماماً ليس فقط عن المدينة المقدسة، وإنما أيضاً عن الجزء الشمالي من الضفة الغربية بأسرها، ملحقاً ضرراً جسيماً ليس فقط بالسكان الفلسطينيين في تلك الأراضي وإنما كذلك بمستقبل عملية السلام، وهو ما يمكن وصفه بأنه طريقة قاسية ورهيبة للاحتفال بأعياد الميلاد. لقد اعترضت إدارة أوباما بالطبع على تلك الإجراءات الإسرائيلية ووصفتها بأنها جزء من «خطة للاستفزاز». وهو رد فعل شاهدناه يتكرر كثيراً من قبل. فما سيحدث هو أن إسرائيل ستغض الطرف عن تلك الاحتجاجات، وتستمر في أعمال التوسع، كما كانت تفعل دائماً طيلة العقود الماضية. وما لم تكن تلك الاحتجاجات الدولية متبوعة بإجراءات حاسمة، ستكون أعمال بناء الوحدات السكنية والمستوطنتين قد اكتملت بحلول عيد الميلاد القادم، مما سيلحق الدمار بحياة وآمال وطموحات العديدين ممن يطمحون للحرية والعدالة. إنها لمفارقة محزنة في الحقيقة، أننا عندما نغني هنا في أميركا في عيد الميلاد الحالي أغنية «مدينة بيت لحم الصغيرة»، فإن ما سيرد على أذهاننا ليس مدينة بيت لحم الفلسطينية الحقيقية التي تتنفس، وتعيش، وتعاني، وإنما مدينة بيت لحم الموجودة في خيالنا. والدليل على ذلك أننا عندما أجرينا استطلاعاً للرأي منذ عدة سنوات في الولايات المتحدة في محاولة منا لمعرفة ما يعرفه الأميركيون عن مدينة بيت لحم، تبين لنا أن معظم من شاركوا في الاستطلاع لا يعرفون أين تقع هذه المدينة من الأساس، وأن ستة من بين كل عشرة منهم كانوا يعتقدون أنها مدينة إسرائيلية يقطنها اليهود، وأن واحداً فقط بين كل سبعة كان يعرف أنها مدينة مختلطة يسكنها المسلمون والمسيحيون واليهود. وعلى رغم أن معظم الأميركيين يرون أن مدينة بيت لحم يجب أن تكون تحت إشراف منظمة اليونيسكو باعتبارها موقعاً تراثياً عالمياً، إلا أنه لم يكن هناك احتجاج علني عندما قلص الكونجرس الأموال التي تخصصها أميركا لدعم اليونيسكو العام الماضي، عقاباً للسلطة الفلسطينية التي كانت حصلت على عضوية تلك المنظمة الدولية، كي تكون قادرة على الدفع باتجاه الاعتراف ببيت لحم على رغم الاحتجاجات الإسرائيلية. ولا يعرف الأميركيون أيضاً أن المدينة محوطة فعلياً بجدار خرساني ضخم وخانق، وأن معظم الأراضي المحيطة بها قد سُرقت، واستخدمت لإقامة مستوطنات مخصصة لسكنى اليهود فحسب. كما لا يعرفون أيضاً أنه يوجد في بيت لحم اليوم المئات من الحرفيين المهرة، يعانون من البطالة وكانوا في الماضي مشهورين في العالم بأسره لمهارتهم الفائقة في الحفر على خشب أشجار الزيتون، وبراعتهم الفنية في تصميم المنتجات المطعَّمة بالأصداف. أما في الوقت الراهن فلا يجد هؤلاء الصناع المهرة عملا بسبب الاحتلال وحصار المدينة، وعدم قدرتهم على الوصول للأسواق الخارجية. إن عدم فهمنا في الغرب لمحنة بيت لحم، وصمتنا على معاناتها، إنما يرمزان لعدم فهمنا لوضع فلسطين بأسرها وصمتنا على ما يعانيه شعبها. ففي عين خيالنا نستطيع رؤية إسرائيل بوضوح، ورؤية بيت لحم كما نتخيلها، أما الشعب الفلسطيني الحالي فنتخيله وكأنه لا يوجد ببساطة في الواقع، وإنما هو عبارة عن شيء مجرد أو مشكلة يمكن أن تحل ولكن بالشروط الإسرائيلية. وكما أشرت آنفاً قد يكون في مصلحتنا جميعاً أن نصمم على جعل عيد الميلاد القادم مناسبة لمعرفة بيت لحم الحقيقية وسكانها الحقيقيين، وأعني المسيحيين الذين يعيشون فيها منذ عهد المسيح، والمسلمين والحياة التي يحيونها بالفعل والمعاناة التي يعيشونها، وما الذي يتعين فعله من أجل التخفيف من معاناتهم. وإذا ما فعلنا ذلك فإنه قد يكون بمقدورنا الانضمام للاحتفالات احتفاءً بمولد المسيح، وإنشاد نشيد «على الأرض السلام وللناس المسرة»، وتقديم المساعدة على جلب قدر من الاثنين «السلام والمسرة» لشعب أرض فلسطين الذي حرم منهما طويلا.