منذ الأيام الأولى التي بدأنا نعي فيها ما يدور حولنا من أمور هذه الدنيا، تعلمنا أن يكون لنا وطن نحبه، ويجب أن نحميه ونرعاه ونحافظ عليه وعلى مصالحه وترابه وبحاره وسمائه. في تلك الأيام، في أواخر خمسينيات القرن العشرين، كانت فكرة الوطن جديدة علينا، ولم نكن نعي كنهها ومفهومها ونحن في نعومة أظافرنا، لكنها كانت تصل إلينا وهي ممزوجة بحس وطني عارم قوامه حب «البلاد» وأهلها مجسدين في حاكمها وأهل «الدار» بحاراتها وأزقتها وشواطئها وكثبانها الرملية الناعمة التي تبدأ ذهبية ثم تتحرك إلى حمراء تسلب الألباب مع التوغل في الصحراء كي نصل إلى المنطقة الوسطى ونحن متجهون صوب الشرقية مارون بواحات غناء ثم بسلسلة جبال الحجر الشاهقة إلى أن نصل إلى الشرقية بروعتها وسحرها وطيبة أهلها. تعلمنا بأن لنا وطن علينا واجب حبه والولاء والإخلاص له. كبر الوطن وكبرنا معه وكبر حبنا وولاؤنا له ولقيادته، وأصبح شامخاً باتحاد أجزائه السبعة بدءاً بالثاني من ديسمبر 1971، وأخذ يحقق الإنجازات العظام مسجلاً بذلك أسرع حالة تنمية اقتصادية بشرية ناجحة في تاريخ العالم الحديث. لكن مع كون الوطن يكبر فإن همومه أيضاً تكبر، وباتصالنا بالعالم الخارجي صارت تفد إلينا «علوم» (وهي بلهجتنا العامية تعني أخباراً ومفردها علم أي خبر)، وأفكار ليست دائماً خيرة نيرة، إنما البعض منها غث ورديء وسيئ. من هذه «العلوم» ما يريد أن يفرقنا ويجعل منا جماعات شتى، وأن يحولنا من الولاء للوطن إلى الولاء للجماعة، وهذه الجماعة ترتدي ثوب الإسلام وتسمي نفسها بجماعات «الإخوان المسلمين»، وهي جماعة ذات نظرة عالمية يريد أصحابها كما يقولون، تأسيس الدولة والحكومة الإسلامية. يقوم منهج هذه الجماعة على التآمر على الدولة الوطنية في العالم العربي لقلب نظم الحكم القائمة فيها وإقامة الدولة الإخوانية وحكومتها التي يتصورونها. لقد حدثت إحدى تلك المؤامرات في مصر عام 1965 بقيادة سيد قطب أحد قادة ومنظري ومفكري جماعة «الإخوان المسلمين»، في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. وأثناء محاكمتها اتضح بأنه لا يميز بين الإسلام وجماعة «الإخوان المسلمين»، فعندما سأله المدعي العام عن ماهية الوطن بالنسبة له، رد قائلاً بأنه يعتقد بأن الروابط الفكرية والعقائدية أكثر أهمية من الوطن والوطنية القائمة على البعد المكاني، وبأن التفريق بين المسلمين على أساس من المكان أمر لا يختلف عن الصليبية والصهيونية والإمبريالية ويجب التخلي عنه فكراً وممارسة. وعندما علق المدعي العام على ذلك قائلاً لسيد قطب بأنه يقر بأن الارتباط الذي له أهمية لديه وأكبر من الوطن والوطنية ذلك الذي يعود إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وليس إلى الإسلام، رد سيد قطب بالقول بأن الإسلام هو الانتماء إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، وهذا يعني بأن أولئك الذين لا يحملون فكر جماعة «الإخوان المسلمين» لا يمكن اعتبارهم بأنهم ينتمون إلى الإسلام! هذا الفكر عجيب جداً، فالوطن أكبر من كونه «جماعة» يقوم الفرد بالانتماء إليها والولاء، لها والإخلاص لها ولقياداتها على أسس فكرية وعقائدية مجردة. الوطن مآل وسكن وأمن ورزق يتوافر للمواطن في ظل قيادة رشيدة وحكيمة تسعى إلى تحقيق ذلك للمواطن بكل جهد تستطيعه، وليس بجماعة تختبئ قيادتها ومنتسبوها في غياهب الظلام كالخفافيش عند أول «كشة» تقوم بها السلطات الرسمية ضدها. الوطن وحبه والانتماء له والإخلاص له والولاء له أعظم وأسمى من كل ذلك بكثير جداً.