الفلسفة مدارس وتيارات واتجاهات ومذاهب ومناهج متباينة تعبر عن وجهات نظر مختلفة وتصورات للعالم متباينة. وهي موقف تأملي من العالم. يحول العلامات إلى دلالات، والأشياء إلى معانٍ. تحلل التجارب الحية للأفراد والجماعات لتصوغ رؤى شاملة للحياة وللكون وللتاريخ. وهي في الوقت نفسه التزام بموقف. فالفلسفة ليست فقط فعلاً تأملياً بل هي حركة في المجتمع والتاريخ. الفلسفة ليست حرفة بل رسالة. ليست مهنة بل قضية. ليست لغواً بل مسؤولية. والفلسفة هي تاريخها وبنيتها. تاريخ الفلسفة هو مجموع الخبرات الفلسفية للشعوب وللعصور. وبنيتها هو التراكم الفلسفي الذي يبدو من خلال التاريخ في المواقف والرؤى المتكررة عبر العصور. لذلك يقرأ الحاضر في الماضي، والماضي في الحاضر. تبدو المعية أو التزامن Synchronism من خلال التوالي أو التعاقب Diachronism بمصطلحات البنيوية. وبناء على رصد الماضي وسبر الحاضر يمكن تحديد ملامح فلسفة المستقبل طبقاً لقوانين التاريخ. وتوالد المذاهب الفلسفية والفعل ورد الفعل والتوسط. كانت الفلسفة قبل تأسيس الجامعة المصرية من عمل الهواة. وكانوا ينتسبون إلى التيارات الرئيسية الثلاثة في الفكر العربي الحديث. الأول التيار الإصلاحي. فقد حاور الأفغاني «رينان» حول الإسلام والعلم، وحاور محمد عبده هانوتو وفرح أنطون عن العلم والمدنية والتقدم والتأخر. ونشأت فكرة الجامعة في ذهن محمد عبده وقاسم أمين كوسيلة للتنوير والإصلاح. والثاني التيار الليبرالي عند الطهطاوي الذي ترجم «روح الشرائع» لمونتسكيو. ورأى صورة الغرب، باريس، في مرآة الحضارة الإسلامية وصورة العالم الإسلامي في الحضارة الغربية. وفي الوقت نفسه بعث التراث القديم سواء في «تاريخ العرب قبل الإسلام» أو «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز» أو بناء شخصية مصر في «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، جمعاً بين التاريخ والجغرافيا والحضارة، بين القديم والجديد من أجل تحديث مصر، محمد علي نموذجاً. والثالث التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل وأهمية العلوم الطبيعية خاصة علم الأحياء ممثلا في نظرية التطور لداروين وسلامة موسى وأهمية السوبرمان والانفتاح على الغرب كما بدا في «هؤلاء علموني». وكلهم تقريباً من الغرب باستثناء «غاندي». الفلسفة إذن بنت النهضة خارج أسوار الجامعة قبل أن تبدأ. كان منبرها الصحافة والمناظرات مع المستشرقين وبعض الترجمات مثل «أصل الأنواع» لعرض فلسفة النشوء والارتقاء. اختلطت بالأدب والثقافة العامة أكثر مما كانت أنساقاً ومناهج متميزة. وبعد ثورة عام 1919 تأسست الجامعة المصرية تعبيراً عن الاستقلال الوطني، وتحقيقاً لمشروع الإصلاح. فالجامعة ابنة الحركة الوطنية المصرية. وساهم الأساتذة الأجانب خاصة من فرنسا وإيطاليا في تأسيس قسم الدراسات الفلسفية مثل الكونت دي جلازا، وماسنيون، ونللنيو، وبول كراوس، وسوريو، ولالاند، بإعطاء الدروس الأولى كما فعل محمد علي من قبل في بناء مصر الحديثة بالاستعانة بالعلماء الفرنسيين في الصناعة والطب والهندسة، وكما فعل عبد الناصر في إرسال البعثات التعليمية في الستينيات لبناء مصر المعاصرة. وساعد في التدريس بعض علماء الأزهر مثل طنطاوي جوهري صاحب «التفسير العلمي للقرآن» والعائدين من البعثات التعليمية الأولى في العشرينيات والثلاثينيات مثل أحمد لطفي السيد، أول رئيس لجامعة القاهرة، فؤاد الأول، ومجموعة من باشاوات مصر وباكاواتها مثل منصور فهمي وطه حسين. وقد أمدت كلية دار العلوم التي أنشأها علي مبارك في أواخر القرن التاسع عشر بالأساتذة الأوائل مثل إبراهيم بيومي مدكور وأمين سلامة. ثم توقفت البعثات كسياسة منظمة ولم يبق إلا جهد الأفراد الخاص. ومن هذا الرعيل الأول من خريجي الأزهر والعائدين من البعثة التعليمية من فرنسا مصطفى عبدالرازق الذي يعتبر أول مؤسس لقسم الفلسفة وقد وصل في نفس الوقت إلى شيخ الجامع الأزهر. وهو شيخ مستنير، أزهري في السوربون، تلميذ محمد عبده. رد على ادعاءات المستشرقين مثل «كارا دي فو» بعقم الفلسفة الإسلامية، وخلوها من الإبداع، وتكرارها للفلسفة اليونانية، كما رد الأفغاني على «رينان» واتهامه الإسلام بأنه مضاد للعلم. فالفلسفة الإسلامية لا توجد في علوم الحكمة التي تعاملت مع الفلسفة اليونانية ترجمة وشرحاً وتلخيصاً وعرضاً وتأليفاً بل في علم الأصول، علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. وهو علم خال من أي تأثير يوناني. نشأ نشأة داخلية محضة، علم أصول الدين لتأسيس العقيدة على العقل والبرهان، وعلم أصول الفقه لاستنباط أحكام الشريعة. لذلك كان الاجتهاد عملاً فلسفياً منطقياً إبداعياً إسلامياً خالصاً. وكتب في ذلك «التمهيد لتاريخ الفلسفة في الإسلام». وأثبت أن الكندي، وهو الفيلسوف، لا ينطبق عليه ادعاء المستشرقين. وكتب لذلك «الكندي فيلسوف العرب». وهو متكلم ومترجم ومؤلف. كما بين أن الفارابي هو المعلم الثاني الذي هذب أرسطو وعرضه وبينه وذلك في كتابه «الفارابي أو المعلم الثاني». وقد اعترف ابن سينا أنه قرأ كتاب «ما بعد الطبيعة لأرسطو» فلم يفهمه إلا بعد أن قرأ رسالة الفارابي «في تحقيق غرض أرسطو في كتاب ما بعد الطبيعة». ثم نظّر لذلك كله في «الوحي والعقل والإسلام» مبيناً تطابق الوحي والعقل في الإسلام. ووجه عبدالرازق تلاميذه من الجيل الثاني لتحقيق التوجهات العامة لمشروعه. ثم عكف على الفلسفة الغربية ترجمة وتأليفاً. وفي إطار تمثل الوافد درس زكي نجيب محمود الوضعية المنطقية. وعرضها وترجم نصوصها بعد أن كتب رسالته للدكتوراه في «الجبر الذاتي» منتقلا من الأخلاق إلى فلسفة العلوم بعد أن تعرف على «آير» قبل العودة من إنجلترا إلى مصر بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية. وكتب عن «آير» و«هيوم». ولم ينس في نفس الوقت الموروث. فكتب «جابر بن حيان». ولما كان يجمع بين الفلسفة والأدب أصبح من مؤسسي المقال الفلسفي مرة في الأسبوع بعد أن عُين في «الأهرام». ثم جسدت شخصية عبدالرحمن بدوي رسالة هذا الجيل الثاني جمعاً بين الموروث والوافد والإبداع الذاتي. فهو الفيلسوف على الاتساع. عمل في التحقيق والدراسات الإسلامية وترجمات الروائع المئة والتأليف في الموروث والوافد، ويبدع في الفلسفة والأدب. ولا يعترف في موسوعته الفلسفية من القدماء إلا بابن رشد ومن المحدثين إلا بأستاذه مصطفى عبدالرازق وبمن أشرف عليه في رسالته للماجستير عن «مشكلة الموت» وهو طه حسين، وبدوره الشخصي الذي حاز أكبر قدر من صفحات الموسوعة. بدأ مبدعاً في «الزمان الوجودي» اعتماداً على برجسون وهيدجر، وانتهى مبدعاً في «الإنسانية والوجودية في الفكر العربي»، ومتمثلاً شيدر في «روح الحضارة العربية». ألف «نيتشة» و«اشبنجلر» و«هيجل» و«شلنج» و«شوبنهاور». وألف في «تاريخ الفلسفة الإسلامية» حتى أصبح له أكثر من مئة وأربعين كتاباً. قام هذا الرعيل الثاني بدور المتكلمين والفلاسفة والصوفية والأصوليين. ومثلوا أهم التيارات الفلسفية، المثالية والتجريبية والوجودية. وكان يعترف بدور الأستاذ والمعلم والشيخ. كان يمثل الدفعة الأولى له. ثم بدأ هذا الدافع الحيوي في البرود لدى الجيل الثالث باستثناء القليل مثل زكريا إبراهيم الذي جمع بين الموروث والوافد لصالح الوافد. عاد من فرنسا مشبعاً بالظاهراتية والفلسفة الوجودية وفي نفس الوقت، قارئاً إياهما في «أبي حيان التوحيدي»، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة. جمع بين الفلسفة والآداب. وعرض الفلسفة باعتبارها مشكلات مثل الحياة والموت والحب. حوّل الفلسفة إلى ثقافة عامة بما كان لديه من قدرات أسلوبية. لم يعش طويلاً ولكنه ترك أثراً في مستمعيه من طلابه، ومنهم فؤاد زكريا تلميذ بدوي. درس «اسبينوزا» و«نيتشه». وانتسب إلى فلسفة العلم ترجمة وتأليفاً. وتذوق فن الموسيقى. ودافع عن الموقف الطبيعي للإنسان.