يرصد الباحث العراقي رشيد الخيون مشاهد في العاصمة الإماراتية أبوظبي، مستخدماً ببراعة خطوطاً ناظمة تجمع أدب الرحلات والمقابلات الشخصية. يقول الخيون "تقدمت أبوظبي والإمارات بعامة في العمائر والطرق، وأنت تقطع الطريق بين أبوظبي ودبي أو العين، كأنك تقطع ما بين باريس ولندن. ومعلوم أن درجة التحضر والثقافة تُقاس إلى حد بعيد بضوابط حركة المرور، لكن مع ذلك لم تدعك الصحراء تنساها، فالأسماء التي نقشت على الطريق والأشجار التي صفت، وهي تعاند العطش وغبرة الرمال كلها تقول لك، إن الأساس كان صحراء”. يواصل الخيون رصد ما ترسخ في ذهنه عن واقع أبوظبي، قائلاً: صحيح أن نعم الطبيعة، من خصوبة المكان والماء مؤثرات لا تعوض في إيجاد العمران وتقدم المعاش، لكن يبقى العقل وما يفرضه في السياسة والإدارة هو الصانع الأول. وعن تاريخ أبوظبي يشير الخيون إلى سبب تسمية المدينة بهذا الاسم، فالقصة المتواترة تقول: إنها كانت في يوم من الأيام مرتعاً للظباء، وسقط ظبي في بئر، فسميت تلك البئر أبوظبي، فأخذت المنطقة الاسم منه. وكان يميز أبوظبي حتى قيام الاتحاد عام 1971 علمها الأحمر مع مستطيل أبيض صغير، وتأسست أبوظبي كمشيخة أو إمارة عام 1761، بعد ظهور الماء العذب للمرة الأولى فيها، وحينها، يقول الخيون، انتقلت جماعة من بني ياس برئاسة ذياب بن عيسى بن نهيان آل نهيان- الذي توفي عام 1793- ليعيشوا حول الماء في أبوظبي. وبذلك لم تخرج أبوظبي في هذا التأسيس عن القاعدة التي قالها بعض الحكماء واستشهد بها أبوحيان التوحيدي بأن "المدن تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة". وخصص الخيون فصلاً كاملاً من فصول كتابة الـ13 لمؤسس دولة الإمارات العربية المتحدة المغفور له بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي صمم على تحويل الرمال إلى عمران، والذي كان يؤكد، قبل الانطلاق بالعمران أنه يريد لكل مواطن بيتاً ومصدر عيش كريم. وعندما كان زايد حاكماً للعين راسل عدداً من الملوك والرؤساء لمساعدته في إنشاء مدارس، وينقل الخيون عن الدكتور عدنان الباجه جي أحد واضعي أسس الجهاز الحكومي لأبوظبي أن التعليم كان الهاجس الأول لدى الشيخ زايد، عندما كان حاكماً لأبوظبي، فمع العمران في المباني لابد من عمران الإنسان، وهذا هو سر النجاح. لذا بعد تشييد المدارس كانت تُدفع رواتب للتلاميذ لجذبهم إلى المدرسة، وكانت المدرسة النهيانية نسبة إلى آل نهيان في العين من أوائل المدارس الحديثة غير المقتصرة على تعليم الأمور الدينية، وفي أبوظبي، هناك مدارس نشأت في وقت سابق لتدريس القرآن والأمور الدينية، ثم تأسست مدارس التعليم الحديث وتوسعت، ولاتساع المهام، صار للتعليم العالي وزارة والتعليم وزارة منفصلة. ويواصل الخيون قراءته لبعض جوانب من مسيرة الشيخ زايد، مشيراً إلى أن من أولى القرارات التي اتخذها تحريم قلع الشجر والعقوبة كانت صارمة، وكذلك تحريم صيد الطير، ويقول الخيون “لولا تلك الصرامة من أجل إحياء الشجر ما تم الانتصار على الرمال العطشى، وما امتدت خطوط النخيل على طول الطرقات الداخلية والخارجية". لقد زار الشيخ زايد بريطانيا وفرنسا وأميركا في عام 1953، وكان لهذه الزيارة تأثير على رؤيته في العمران والحياة المتمدنة. لقد احتفظ زايد ببداوته وانفتح على الحضارة، واستوعب دروس التسامح الديني والاجتماعي... ويقول الخيون: من حظ أبوظبي أن عاش لها مؤسسها نحو أربعة عقود حاكماً لها، فواضع حجرة التمدن الأولى أكثر حرصاً ودراية على صعود البناء في الأفق. ويبدي الخيون إعجابه بانفتاح الظبيانيين والإماراتييين بشكل عام، فهم يواظبون على الصلاة والصوم، وليس أكثر من المساجد في أبوظبي، واختلاط الأديان والمذاهب على أرضها...فالثقافة الجامعة بين الدين والدنيا وبين العقل والدين هي الكفيلة بالتمدن وحماية الدين في الوقت نفسه. ويفرد الخيون فصلاً كاملاً في كتابه عن أفلاج العين وبساتين نخلها، قائلاً إنها كانت مصيفاً لأهل أبوظبي. الأفلاج ممرات مائية تجري تحت الأرض شيدت قديماً كأنفاق يمر عبرها الماء من منابعه الجبلية لسقي بساتين النخيل. وفي أحد فصول كتاب، يرصد الخيون ما عنونه بـ" التجاوز المريح: المساجد والكنائس"، وفيه يخرج بخلاصة مفادها أنه لا يبدو المواطن الظبياني والإماراتي بشكل عام ميالاً للكراهية الدينية، بل على العكس نجده منفتحاً ومتعقلاً في التعامل مع غير المسلمين، ويقول الخيون : لا يقتصر الوجود الكنسي بأبوظبي على العبادة فحسب فهناك حرية للنشاط الثقافي والاجتماعي عبر المسرحيات والحفلات داخل المجمع الكنسي بالمشرف، وفي معرض رصده للحرية الدينية في أبوظبي، نقل الخيون مقولة رجل دين مسيحي مفادها:ارتبط وجود حريتنا بالشيخ زايد وأبنائه حتى هذه اللحظة، سائرون على خطاه. الخيون عرج على مكانة المرأة في أبوظبي في فصل كامل، وكيف أنها أصبحت قاضية ووزيرة ومحققة، وهو ما يراه الخيون أمراً يحتاج إلى دراسة. وفي فصل آخر تطرق لـ«مدينة مصدر... حلم البيئة النظيفة» … المدينة تحاول تنظيف البيئة الكربون وتطوير مصادر طاقة نظيفة من الشمس والرياح. «مصدر» قائمة على فكرة التحضر أو الاستعداد ليوم سينضب فيه النفط، أو أن العلم سيكشف مادة بديلة، وإيجاد بيئة نظيفة... مدينة "مصدر" تعد حسب الخيون نموذجاً أولياً لمدينة المستقبل، وهي نموذج مصغر لمدينة تعتمد على طاقة نظيفة... في أجواء المدينة خرج "الخيون" بفكرة المؤاخاة بين العقل والثورة لتتحول الشمس والريح إلى طاقة نظيفة ويكبر الحلم. طه حيسب -------- أبوظبي … تصالح العقل والثروة المؤلف : رشيد الخيون دار مدارك للنشر 2012