عندما أسس كمال أتاتورك الجمهورية التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية قام بتشكيل شخصية جديدة للشعب التركي، وصاغ هوية مختلفة عما عرفه الأتراك طيلة القرون الماضية، تلك الهوية القائمة على القومية العرقية الصارمة وعلى الانخراط في حداثة أوروبية تستمد من القيم الغربية في جانبها التحديثي والسياسي السابق على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ذلك أن القومية التركية كانت في جانب منها شبيهة إلى حد كبير بالأحزاب القومية الأوروبية التي تطورت في مرحلة ما إلى الفاشية، ولكن لحسن الحظ كان التطور التركي في اتجاه آخر مغاير بعيداً عن الفاشية والتطرف، وهذا التحول في الهوية التركية، وفي طبيعة القومية التي انتقلت من العرق إلى الدين هو ما تحاول الأنثروبولوجية الأميركية، "جيني وايت"، كشفه في كتابها الموسوم "القومية المسلمة والأتراك الجدد" الذي تسعى من خلاله لدراسة مسار الهوية التركية والتطورات التي شابتها على مدى العقود والسنوات الماضية، ومن أجل ذلك تعود الكاتبة إلى التاريخ المعاصر للدولة التركية الحديثة، بدءاً من لحظة التأسيس عقب انهيار الإمبراطورية العثمانية، ورغبة كمال أتاتورك في ترسيخ شخصية تركية جديدة تقطع مع بقايا التأثير العربي والبيزنطي القديمة، وليس انتهاء بمحددات الهوية التركية المتمثلة في اللغة والإسلام الذي ترعاه الدولة من دون مظاهر التدين الاجتماعي، ولذا تم حظر جميع تجليات التدين الشعبي من حجاب المرأة إلى طربوش الرجل، لأن ذلك يناقض الصورة الغربية التي سعى أتاتورك إلى صياغة تركيا على أساسها. ولكن بعد نصف قرن تقريباً على لحظة التأسيس الأولى للجمهورية التركية الحديثة ترى الكاتبة أن القيود الكمالية تعيش مرحلة الأفول والتلاشي. فبدلاً من الهوية القائمة على علاقة الدم والعرق والشرف ونقاء تلك المكونات التي سيجت نفسها بحدود وهمية لقومية ثابتة تبنى على قيم المجتمع الذكوري والعلاقة بين القومية والدين، ثم ما صاحب ذلك من إعلاء لشأن العسكرية في المجتمع التركي، ظهرت مكونات أخرى، وليس غريباً أن يكون أحد الشعارات التي تتردد كثيراً في الاحتفالات القومية التركية هو عبارة "نحن كلنا جنود". وبالطبع عمدت هذه الهوية المتمحورة حول القيم الكمالية إلى حماية نفسها بقوانين وتشريعات طالما أثارت العديد من الجدل والانتقادات الغربية، مثل قانون 301 الذي يجرم المس بالشعور القومي. وهكذا انبنت النظرة الكمالية الصارمة للهوية التركية على قيمة الدم التركي وتوحده مع العرق المتشابك في علاقة عضوية مع الإسلام، هذا الأخير الذي شكل هوية الدولة على رغم العلمانية التي كان الهدف منها ترقية المكون العرقي والقومي، وليس القضاء على الإسلام كمكون أساسي في الهوية التركية، ما جعل من الآخر غير المسلم ضمن نفس المجتمع محط شك وخوف دائمين. غير أن تركيا الحديثة التي أسستها الكمالية ستعرف تحولاً جوهرياً، كما توضح الكاتبة انطلاقاً من الانقلاب العسكري لعام 1980 الذي سيشرع الباب على مصراعيه أمام الجمهورية الثالثة، بعد الثانية التي انطلقت عقب انقلاب 1960، فخلال فترة الثمانينيات ستشهد تركيا تحولاً اجتماعياً سيكون له بالغ الأثر على الساحة السياسية، بحيث ظهرت طبقة اجتماعية من أصحاب الأعمال الصغرى والمتوسطة في عمق الأناضول بعيداً عن المدن الكبرى بسكانها الأكثر تحرراً وتبنياً لنمط الحياة الغربي، حيث بدأت تلك الفئة تنظم نفسها في إطار شبكات اجتماعية تتميز بتدينها الذي تقول الكاتبة إنه تدين علماني، بمعنى أن التدين ظل نوعاً من الهوية الذاتية للفرد اختاره عن وعي، وليس مجرد طقوس موروثة حاولت الدولة الكمالية الحفاظ عليها. فالفرد التركي الواعي بتدينه والذي يعيش اختياراته عن قناعة، سواء تعلق الأمر بالزي، أو الشبكات الاجتماعية، أو غيرها هو ما يميز المجتمعات المسلمة الحديثة بصفة عامة والتركية بصفة خاصة، وكان نتيجة ذلك أن تشكلت سوق رأسمالية لاحتياجات الطبقة المتدينة الجديدة، وصارت قوتها ملحوظة لتنعكس سياسياً في انبثاق الأحزاب ذات المرجعة الإسلامية، وهوياتياً من خلال دخول التدين كمكون أساسي في الهوية، وانتقلت هذه الأخيرة من قومية عرقية قائمة على رابطة الدين، إلى قومية تركية مرتكزة على الإسلام. وبالإضافة إلى الانقلاب الذي غير الكثير من الأمور في الحياة السياسة التركية بعد الانفتاح السياسي للجنرالات على قيم الإسلام، وتشجيع المدارس الدينية لمواجهة التيارات اليسارية والشيوعية المنتشرة في الساحة وقطع الطريق عليها، كان هناك أيضاً انفتاح اقتصادي ميز مسيرة الجمهورية الثالثة، ثم أخيراً صعود الأحزاب الإسلامية التي بدأت تحقق نتائج انتخابية ابتداء من تسعينيات القرن الماضي، وكان لهذه التغيرات وصعود حزب العدالة والتنمية إلى الواجهة، بما يمثله من طبقة برجوازية متدينة قادمة من أعماق الأناضول أن تغير مفهوم الهوية التركية ولتطرح صيغة بديلة لم تعد فيها تركيا ذلك البلد المنقسم داخلياً بين العلمانيين والمتدينين، وبين دعاة القومية التركية والقوميات الأخرى، بل تحولت إلى بلد واثق من نفسه، ومن تاريخه كوريث شرعي للإمبراطورية العثمانية. زهير الكساب ------ الكتاب: القومية المسلمة والأتراك الجدد المؤلفة: جيني وايت الناشر: جامعة برينستون تاريخ النشر: 2012