من أخطر ظواهر الصراع السياسي الدائر الآن في مصر محاولة التيارات الدينية إجراء تصنيف زائف للتوجهات السياسية لأطراف الصراع. وذلك لأن جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات السلفيين رفعت مظاهراتها الحاشدة شعار «نعم للشرعية والشريعة». وهي توحي للجماهير العريضة بأن الخصوم السياسيين من التيارات الثورية والليبرالية واليسارية يقفون موقفاً رافضاً للشرعية وللشريعة معاً. والواقع أن هذا الاتجاه تحاول التيارات الدينية ترسيخه في العقل الشعبي الذي يسود بين ملايين المصريين من المواطنين البسطاء الذين تم تزييف وعيهم عبر العقود الماضية بدعايات دينية مبناها أن هدفهم تطبيق «شرع الله»، وكأن شرع الله ليس مطبقاً في البلاد بالإضافة إلى مزاعمهم أنهم يدافعون عن الشرعية. ولو تأملنا هذا الشعار الزائف ونعني الدفاع عن الشرعية والشريعة لأدركنا خطورة خلط السياسة بالدين. وذلك لأن الشرعية مفهوم سياسي في المقام الأول، ولا علاقة له إطلاقاً بالشريعة الإسلامية أو غيرها من الشرائع الدينية فمعناه ببساطة رضاء المحكومين عن النظام السياسي السائد. وهذا الرضاء قد يتآكل عبر الزمن إذا مارس النظام السياسي سياسات قمعية تحد من الحريات السياسية، أو سياسات اقتصادية تؤدي إلى إثراء القلة على حساب ملايين الفقراء، أو سياسات خارجية ترسخ تبعية البلاد لدول أجنبية. وهذا ما حدث تماماً بالنسبة لتآكل شرعية النظام السياسي المصري الذي كان يقوده مبارك. فقد مارس القمع السياسي ضد خصومه السياسيين، على رغم أنه ورث من عهد السادات نظاماً سياسياً يقوم على التعددية السياسية المقيدة إلا أنه أمعن في مجال تهميش كل أحزاب المعارضة، ليصبح الحزب الوطني الديمقراطي أشبه بالحزب الواحد في نظام شمولي أو سلطوي. أما من الناحية الاقتصادية فقد مارس نظام مبارك سياسات تحت عنوان «الإصلاح الاقتصادي» أدت إلى نتائج كارثية بالنسبة للملايين ممن ينتمون إلى الطبقات الدنيا والوسطى. وذلك لأنه وفق سياسات «الليبرالية الجديدة» -التي تبنتها الولايات المتحدة الأميركية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي- كان لابد من تصفية القطاع العام تماماً وبيعه بأبخس الأثمان للقطاع الخاص وتسريح آلاف العمال وإحالتهم إلى المعاش المبكر، بالإضافة إلى فتح الأبواب واسعة وعريضة أمام الاستثمار الرأسمالي الذي يقوم به رأسماليون مصريون أو عرب أو أجانب بدون رقابة واجبة من قبل الدولة، وفي ظل فساد معمم أدى إلى نهب أراضي الدولة وبيعها للمستثمرين بأسعار زهيدة في مناخ يسوده الفساد، بالإضافة إلى شق المجتمع المصري -نتيجة للإثراء بلا سبب لفئات قليلة من النخبة- إلى سكان المنتجعات من ناحية وسكان العشوائيات الذين وصل عددهم إلى الملايين من ناحية أخرى. فإذا انتقلنا إلى السياسة الخارجية سنكتشف أنه تم في عهد مبارك ترسيخ علاقات التبعية الكاملة للولايات المتحدة الأميركية بما لا يحقق بالضرورة المصلحة العليا المصرية، بالإضافة إلى انكماش مصر داخل حدودها وتخليها عن دورها المركزي في إطارها الإقليمي العربي. ولكل ذلك كان من المنطقي أن تتآكل شرعية نظام مبارك وتسود في السنوات الأخيرة من حكمه مئات المظاهرات السياسية والإضرابات الاحتجاجية، مما مهد الطريق فيما بعد لاندلاع ثورة 25 يناير التي قادها شباب الثوار والتحمت بها ملايين المصريين الذين تراكم في نفوسهم السخط الشديد على سياسات النظام المنحرفة. وكل هذه الظواهر وثيقة الصلة بموضوع الشرعية السياسية التي يهتم علم السياسة بدراستها من زاوية نشأتها وتبلورها وزوالها، حين ينحرف النظام السياسي ويبتعد عن التعبير الحقيقي عن مصالح الجماهير العريضة. غير أن الشرعية السياسية لا علاقة لها إطلاقاً بتطبيق الشريعة. ولو تتبعنا موضوع تطبيق الشريعة في مصر لاكتشفنا أن التيارات الدينية وفي مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين» -نتيجة حرصها على خلط الدين بالسياسة- هي التي رفعت شعار أن «الإسلام هو الحل» الذي ذاع بين الجماهير وخصوصاً في أوقات الانتخابات مع أن هذا الشعار كما أكدنا أكثر من مرة شعار فارغ من المضمون! وذلك لأنه لا علاقة للإسلام باعتباره ديناً سماوياً بحل المشكلات الاقتصادية، أو التصدي لموضوع الاعتماد على البحث العلمي والتكنولوجيا كأساس للتنمية القومية. وهذا الخلط بين الدين والسياسة والاقتصاد الذي مارسته جماعة «الإخوان المسلمين» وغيرها من التيارات الدينية، كان الهدف منه في الواقع تقويض الدولة المدنية في مصر وغيرها من البلاد العربية وتأسيس دولة دينية تقوم على الفتاوى الدينية وليس على التشريع. ودليلنا على ذلك أن مجلس الشعب الذي تم انتخابه بعد ثورة 25 يناير وحصلت فيه جماعة «الإخوان المسلمين» على الأكثرية مع حزب «النور» السلفي هو الذي اعترض على قرض البنك الدولي الذي حاولت حكومة الدكتور «الجنزوري» الحصول عليه لأن فوائده تمثل رباً محرماً، وقد كان هذا القرار ذروة الخلط المعيب في الواقع بين الدين والسياسة، لأنه يمكن أن يؤثر على وضع الدولة الاقتصادي وعجزها عن التعامل مع الاقتصاد العالمي بأدواته الرأسمالية المعروفة. ولا يجدي في هذا المجال الادعاء الكاذب بأن بعض البنوك الإسلامية هي الحل لأن مثل هذه البنوك مترابطة عضوياً مع البنوك الرأسمالية المتهمة بأنها تمارس الربا. ومما يدل على الانتهازية السياسية لجماعة «الإخوان المسلمين» في مجال تلاعبهم بالدين أن الوزارة التي شكلها الدكتور محمد مرسي بعد انتخابه رئيساً للجمهورية ونعني وزارة هشام قنديل، هي التي تحارب الآن للحصول على قرض البنك الدولي. وخرج بعض منظري جماعة «الإخوان» لتبرير هذا التناقض في السياسات بفتوى هزلية مبناها أن الضرورات تبيح المحظورات! ونحب أن نؤكد أن الدين له قداسته ولا ينبغي إقحامه في مجال السياسة بكل ما يزخر به من صفقات وتحالفات ونزعة براجماتية. ومن ناحية أخرى الادعاء بأن الغرض من الحشود الجماهيرية هو تطبيق شرع الله، فذلك يجافي الواقع لأن الشريعة الإسلامية مطبقة فعلاً في مصر حتى قبل إدخال النص الشهير في الدستور بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. ورفع شعارات الشرعية والشريعة يتضمن في ذاته اتهام أنصار الجبهة الليبرالية ممن اعترضوا على الإعلان الدستوري وعلى مسودة الدستور التي تقرر الاستفتاء عليها، بأنهم هم ضد الشرعية وهذا وهْم باطل، لأنهم هم الذين يطالبون بتطبيق تقاليد الشرعية السياسية، أو أنهم ضد الشريعة وذلك افتراء واضح وتهمه لا أساس لها. باختصار شديد هذا الانقسام السياسي لا علاقة له بالشريعة ولكنه وثيق الصلة بالشرعية التي تعني عدم رضاء ملايين المصريين عن مخالفتها التي تمثلت في الإعلان الدستوري والاستفتاء على الدستور الذي لم تشارك أطياف الشعب المصري المختلفة في وضعه.