في ظاهرة تنمُّ عن شعور كبير بالمسؤولية تجاه الوطن، والتزاماً بمساعدة المؤسسات والشركات الوطنية على تجاوز تداعيات الأزمة المالية العالمية، قرر العاملون في شركة الطيران الفنلندية ومن تلقاء أنفسهم تخفيض رواتبهم للمساعدة في تجاوز شركتهم لتداعيات الأزمة. ومع أن هؤلاء العاملين لا يتحملون أية مسؤولية عن حدوث هذه الأزمة التي تسبب فيها كبار مديري البنوك والمؤسسات المالية نتيجة لتهورهم وعدم التزامهم بأصول التعاملات المالية وجشعهم الذي لا حدود له، إلا أن المهم الآن هو التعاون بين كافة أطراف الإنتاج لتجاوز الأزمة وعودة الأنشطة الاقتصادية لعهدها السابق والتقليل قدر الإمكان من نتائجها السلبية، وبالأخص البطالة. وفي هذا الجانب تتفاوت التقييمات بصورة كبيرة بين اتجاهين، الأول هو الاتجاه الاسكندنافي والإيرلندي الذي يؤمن بالعمل الجماعي والمتواصل من قبل كافة مكونات المجتمع للخروج من المحنة، فالتداعيات السلبية شملت الجميع دون استثناء، سواء مالكي رؤوس الأموال والعمال وأصحاب المهن الصغيرة والمتوسطة والتجار والمزارعين أو حتى قطاع المال الذي تسبب في حدوث الأزمة. ولذلك، فإن للجميع مصلحة عامة في التعاون والعمل الجاد والمتواصل. ومن هنا نرى أن البلدان الإسكندنافية وإيرلندا تحقق تقدماً ملحوظاً وكبيراً نحو استعادة القطاعات الاقتصادية لزخم نشاطاتها، إذ إن هناك تعاوناً ملفتاً للنظر واستثنائياً بين رجال الأعمال والعمال والحكومات التي تنسق بصورة مشتركة، حيث التضحيات والتنازلات والمساومات من قبل كافة الأطراف. وبالنتيجة تم في هذه البلدان خلق ملايين من فرص العمل وجذب استثمارات محلية وأجنبية كبيرة واستعادة أسواق المال نشاطاتها المعتادة، وإذا ما استثنينا إيرلندا، فإن البلدان الإسكندنافية لم تحتج لصندوق الإنقاذ الأوروبي، وذلك بفضل تغلبها على معظم ترسبات الأزمة. وفي المقابل نجد بلداناً أخرى، كاليونان وإسبانيا تراوح مكانها، حيث تؤدي تصرفات الجميع بدون قصد إلى المساهمة في إغراق السفينة، فرجال الأعمال يرحّلون استثماراتهم إلى الخارج، وبالأخص إلى سويسرا والعمال والموظفون مستمرون، وعلى مدى أكثر من عامين، في مسلسل التظاهر في الشوارع، أما الحكومات، فتقف عاجزة أمام هذه الظواهر، مكتفية بإمدادات الأموال من صندوق الإنقاذ الأوروبي، حيث ستحصل اليونان على 64 مليار يورو هذا الأسبوع، التي ربما ستتبخر مثلما تبخرت المبالغ السابقة، وذلك على العكس من إيرلندا التي ربما لم تعد في حاجة إلى مبالغ إضافية وحققت أقصى استفادة من أموال الإنقاذ السابقة. ومن هنا نجد ارتفاع معدلات البطالة لتصل إلى 24 في المئة في اليونان وإسبانيا يصاحبها إحجام عن الاستثمار وتقلص في الاستثمارات الأجنبية التي تتوجس من استمرار الاحتجاجات المستمرة وتغير الحكومات الذي لا جدوى منه في ظل عدم الاستقرار المجتمعي. وهذان نموذجان بارزان لكيفية التعامل مع الأزمات الاقتصادية المتكررة، إذ لم يعد الأمر كما كان في السابق حيث يقتصر الصراع فيه بين العمال وأصحاب العمل في كل بلد على حدة، فالعولمة وانفتاح الأسواق والتنافسية العالمية قربت إلى حد بعيد بين مصالح أطراف الإنتاج في كل بلد، إذ أصبح ما يضر رجال الأعمال يضر بالضرورة العمال والمصالح الاقتصادية للبلد ككل، كما أن النتائج الإيجابية تشمل الجميع في معظم الأحيان. وهذا الفهم الراقي والصحيح للتطورات العالمية المتلاحقة والسريعة، وهو ما يميز المجتمعات الاسكندنافية التي تملك نظاماً رأسمالياً فريداً من نوعه ويختلف عن الأنظمة الرأسمالية في بقية أنحاء أوروبا والعالم حيث يحقق درجة كبيرة من العدالة الاجتماعية، وبالتالي الاستقرار الاقتصادي والسياسي لهذه البلدان. نعم ليس من السهولة تطبيق هذا النموذج الاقتصادي والاجتماعي الراقي في معظم بلدان العالم، إلا أن هناك بلداناً عديدة، بما فيها بعض البلدان العربية، ودول الخليج تحديداً التي تعتبر الأقرب لهذه التجربة الاسكندنافية الناجحة والتي تشكل نموذجاً متقدماً لمجتمع تسوده روح التعاون للتغلب على مختلف المصاعب والأزمات مما لا تخلو منه مجتمعات عصر العولمة، بما فيها الأزمات الاقتصادية المتعاقبة.