الفرق كبير بين دولة يوجد فيها دستور، ودولة دستورية. فلا تكون الدولة دستورية إلا إذا كان دستورها معبراً عن توافق وطني ويحظى برضا عام في المجتمع. وتبقى الدولة غير دستورية على رغم وجود دستور فيها إذا طغت السلطة التنفيذية على القضاء والبرلمان فصارت إرادتها غالبة ومعطلة لحق الشعب في أن يكون هو مصدر السيادة. والدولة الدستورية هي التي تستمد السلطة التنفيذية فيها شرعيتها من الشعب ويكون القانون سيداً لها وليس عبداً تفعل به ما تشاء بلا رقابة أو مساءلة أو محاسبة. وهذا هو ما يُعرف بمبدأ الدستورية الذي يقوم على أساس بسيط للغاية هو تقييد السلطة التنفيذية وإخضاعها للرقابة، وتمكين المواطنين من محاسبتها وتغييرها عبر الانتخابات ومنعها هي من تغيير إرادتهم أو تزييفها. ولا جدوى، إذن، من دستور في غياب مبدأ الدستورية هذا. ولا يحضر هذا المبدأ في وجود سلطة تنفيذية تعطي نفسها الحق في تغيير إرادة الشعب أو التلاعب بها، فتفقد هذه الإرادة صفتها التي تجعلها هي مصدر تلك السلطة. فإذا تصرفت السلطة التنفيذية باعتبارها فوق الإرادة الشعبية، ومنحت نفسها الحق في إصدار إعلانات دستورية بلا سند من المشروعية القانونية أو الشرعية الشعبية، فهي لا تصبح فوق الدولة فقط بل تصير هي الدولة على نحو لا يجدي معه وجود الدستور... أي دستور. ويحدث شيء من ذلك في مصر التي أصدر رئيسها د. محمد مرسي ثلاثة إعلانات دستورية خلال أقل من أربعة أشهر، أي بواقع إعلان كل 40 يوماً. وينطوي هذا السلوك السياسي على دلالات عدة. ولكن دلالته الأكثر أهمية في هذا السياق هي أن رأس السلطة التنفيذية يتصرف باعتباره صاحب حق في تغيير أي نص دستوري إذا وجده عائقاً أمام سياسة ينتهجها أو هدف يسعى إليه. وإذا كان رأس السلطة التنفيذية قادراً على ذلك، ففي إمكانه بالضرورة أن يفعل ما هو أقل منه فيتجاهل النص الدستوري الذي يلزمه بأمر لا يرغب في الالتزام به. وفي هذه الحالة، لا تكون للدستور قيمة أو جدوى لأن وجوده يتساوى مع غيابه. وقد كانت هذه الحالة في مصر على مدى عقود صدرت خلالها أربعة دساتير أعوام 1956 و1958 (دستور الوحدة المصرية السورية) و1964 و1971. فكان في إمكان رأس السلطة التنفيذية أن يغير مواد في الدستور ويعطل غيرها. فبدلا من أن يضع الدستور حدوداً لهذه السلطة، يكون في إمكانها هي أن «تحدد إقامته» في المساحة التي تراها ملائمة لها. ولذلك، وعلى سبيل المثال فقط، لم يكن مجدياً النص على تقييد المدى الزمني لرئاسة الجمهورية بفترتين اثنتين فقط في دستور 1971 عند إصداره وفق مادته السابعة والسبعين في صياغتها الأولى. فلم يكن هناك أسهل من تعديل هذه المادة عندما أراد الرئيس الراحل أنور السادات ذلك عام 1980. تكفى مناشدات مصنوعة سابقة التجهيز، وبيانات تؤكد أن المسيرة لم تنتهِ، وتطالب الرئيس بأن يقبل الاستمرار لكي تتواصل هذه المسيرة. وتم تعديل دستور 1971 بالفعل عام 1980 لينص على إمكان إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لمدد تالية، وليس لمدة تالية واحدة. وقد حدث مثل ذلك في الجزائر عام 2008، حيث تم تعديل المادة 74 في دستورها لكي تسمح بإعادة ترشيح رئيس الجمهورية وانتخابه بدون حد أقصى. غير أن المعضلة التي تحول دون إقامة الدولة الدستورية في مصر الآن أكبر من ذلك، لأنها تتعلق بجماعة تملك تنظيماً حديدياً مغلقاً وليس فقط بحاكم يريد الاستمرار في السلطة. فقد أفصحت جماعة «الإخوان المسلمين»، التي ينتمي إليها رئيس الجمهورية في مصر الآن، عن حقيقة موقفها الذي يقوم على تصور أنها فوق الدولة. فهي لم تتحمل ازدياد الاحتجاجات ضد سياسة رئيس الجمهورية ومنهجه في إدارة البلاد، فأطلقت بعض فرقها المنظمة والمدربة جيداً لتقوم ببعض الوظائف التي لا تؤديها إلا أجهزة الدولة. كما أعادت تفسير وظيفة حماية الشرعية بما يسمح لفرقها المنظمة بممارسة العنف ضد شباب معتصمين بشكل سلمي وإلقاء القبض عليهم وتعذيبهم قبل تسليمهم إلى الشرطة التي لا يمكن أن تسمح بذلك حتى في الدول غير الدستورية. وحين يحدث مثل هذا السلوك، يصبح السؤال هو عن مصير الدولة نفسها وليس عن دولة دستورية كان لدى المصريين جميعهم، أو على الأقل أكثرهم، يقين بأنها آتية بالضرورة عندما تنحى مبارك مساء يوم 11 فبراير 2011. غير أن هذا اليقين انحسر وتحول إلى شك عميق بشأن مستقبل الدولة نفسها، عندما أصبح «السيف أكثر إنباء من الدساتير»، وتصدر أشخاص لا صفة رسمية لهم المشهد متحدثين باسم هذه الدولة أو بالأحرى بدلاً منها. فليس هناك خط فاصل الآن بين الدولة والجماعة، حيث يتحدث بعض قادة الجماعة أكثر مما يتكلم المسؤولون الرسميون في الدولة. وحتى على مستوى السياسة الخارجية، التي لا يمكن أن يحدث فيها مثل هذا، يتولى بعض قادة الجماعة إدارة ملفات أساسية في مقدمتها العلاقات الجديدة مع الولايات المتحدة ولكن بعد تعيينهم مستشارين لرئيس الجمهورية لكي تكون لهم صفة. ولذلك، لا يعني الإصرار على إصدار دستور جديد في استفتاء مشوب بالبطلان أن مصر ستصبح في القريب دولة دستورية. فإلى جانب رفض قطاعات واسعة من الشعب هذا الدستور، الذي يعتبر الأسوأ في تاريخ مصر، لا تسمح طبيعة السلطة القائمة الآن بتفعيل مبدأ الدستورية. والحال انه لا جدوى من دستور لا يجعل الدولة دستورية. فلا تكون الدولة كذلك إلا بإصدار دستور توافقي يحظى بقبول مختلف فئات الشعب ويُطرح لحوار واسع في المجتمع لفترة لا تقل عن ستة أشهر قبل عرضه للاستفتاء العام وفق الضوابط المعمول بها في الديمقراطيات الحديثة. ومن أهم هذه الضوابط إقرار مشروع الدستور بأغلبية خاصة لا تقل عن ثلثي عدد المقترعين في استفتاء لا يكون صحيحاً إلا بمشاركة نصف العدد الإجمالي للهيئة الناخبة فيه. ولم يتوافر شيء من ذلك في الجولة الأولى للاستفتاء يوم السبت الماضي. فقد اقتصرت نسبة المشاركين فيه على 31 في المئة ولم تزد نسبة الموافقين على 56 في المئة على رغم الانتهاكات الواسعة التي حدثت. فالحد الأدنى لإقرار مشروع دستور يعبر عن إرادة الشعب هو ألا تقل نسبة الموافقين عليه عن ثلثي عدد من يُدلون بأصواتهم في استفتاء تتوافر له ضمانات الحيْدة والنزاهة.