أميركا مشكلة العالم كله، بما فيه أميركا نفسها. تَمَّسُكُها بحرية امتلاك مواطنيها السلاح أدّى يوم الجمعة الماضي إلى جريمة قتل 26 طفلاً مع مدرسيهم في مدرسة ابتدائية. وتعنُّتُ أميركا فيما تسميه حرية الإنترنت أبعدها عن أكثرية دول العالم التي وقعَ ممثلوها في دبي على المعاهدة العالمية الجديدة للاتصالات. وراء كلا الموقفين مصالح صناعة السلاح والإنترنت، التي تحقق أرباحاً بالمليارات. و«الشجرة التي ترفض الرقص سترقص عندما تهب الرياح» حسب المثل الأفريقي. وسترقص أميركا والعالم كله في مهب رياح الإنترنت التي تعصف بالاقتصاد والسياسة والأمن والاتصالات والإعلام والفن، وحتى الحياة الاجتماعية والفردية الحميمية. «بقلب مثقل عليّ أن أعلن أن على الولايات المتحدة التبليغ عن عدم قدرتها على التوقيع على المعاهدة بشكلها الحالي». قال ذلك السفير تيري كريمر، رئيس الوفد الأميركي إلى مؤتمر دبي بعد لحظات من موافقة أغلبية الدول على مسودة المعاهدة التي عارضتها واشنطن. كلمات دبلوماسية عجزت عن مداراة موقف لا يُصدّق انتصرت فيه الإنترنت على «أَبَويهِا أميركا». اعتراف ممثل روسيا بأن «الأميركيين آباء وأمهات الإنترنت» يعبّر عن العرفان بجميل العبقرية العلمية الأميركية، وعن الروح التوافقية للمؤتمر الذي دشن المبادرة التاريخية للحوار بين الإنترنت والهاتف، «هذان العالَمان اللذان يزدادان تقارباً، ويفرضان علينا أن نزداد تحوّلاً، ونجد طريقاً مشتركاً» حسب حمدون توريه مدير عام «الاتحاد الدولي للاتصالات». ويُفترض بالأميركيين الذين اخترعوا الإنترنت معرفة أنه ليس أداة، بل هو شبكة الشبكات التي تستخدمها حالياً مليارات أجهزة الكمبيوتر والاتصالات حول العالم في تريليونات الاتصالات يومياً. الإنترنت هو نحن، ثلث سكان الأرض المتصلون عبر الإنترنت حالياً، وثلثا سكان العالم الآخرين المحرومين الذين تهدف المعاهدة إلى وصلهم بالإنترنت. ويقول المثل الأفريقي «على بائع البيض ألا يبدأ العراك في السوق». والغرب الذي يتعامل في موضوع حقوق الإنسان بالمفرد وليس بالجملة، أصرّ على تضمين ديباجة المعاهدة فقرة عن حقوق الإنسان، لكنه عارض اقتراح البلدان الأفريقية الإشارة في الديباجة إلى حقوق البلدان أيضاً في الإنترنت. الروح التوافقية لمؤتمر دبي مرَّرَتْ الاقتراحين على حد سواء. وقد فتحت مبادرة رئيس المؤتمر محمد ناصر الغانم الطريق المغلق في المساء الأخير للمؤتمر بعد أسبوعين من مفاوضات شاقة. الرزمة التوافقية التي أتى بها الغانم صباح اليوم الأخير خَلَتْ من الأقواس الاعتراضية، وأعلنت في ديباجتها الالتزام باتفاقيات حقوق الإنسان، وسَلّمَت بأنها لا تغطي المسائل المتعلقة بمحتوى الإنترنت. مقابل ذلك نصّت المعاهدة على تحقيق مطالب مطروحة منذ سنوات، كإنشاء خدمات رقم هاتفي واحد للطوارئ تحت تصرف جميع سكان الكرة الأرضية على حد سواء، والاستخدام الكفء للطاقة، والتخلص من النفايات الإلكترونية التي تسمم البيئة بمخلفات ملايين أجهزة الكمبيوتر والهاتف، وتحقيق أمن شبكات الإنترنت، وحمايتها من الكميات الضخمة غير المرغوب فيها من البريد الإلكتروني، وتأكيد مبدأ التعامل غير التمييزي بين البلدان، وشفافية أسعار تجوال الهاتف الجوال، التي تراوح ما بين المجانية تقريباً عبر الإنترنت، وكارثة مالية إذا حاولت الاتصال بجوال حبيبتك في بغداد من هاتف الفندق في دبي. اعتبرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن حصيلة مؤتمر دبي أعادت الحرب الباردة، وتقسيم العالم إلى شرق وغرب وشمال وجنوب. وهذا غير صحيح. فالمعاهدة الجديدة لا تقتصر على ما تريده واشنطن من «التعامل مع أمور تقنية كالمكالمات الهاتفية الدولية» بل تعمل على التقليل من تقسيم العالم بين أغنياء الإنترنت وفقرائها، وتأمين خدمات النطاق العريض للجميع، وتسعى للتخفيف من حربين، باردة، تتجسس، وتشن الحملات الإعلامية، وساخنة تخرب المواقع والشبكات. ولا صحة لادعاء واشنطن أن المعاهدة تهدف حسب الصحيفة «إلى فرض رقابة على حرية التعبير وإشراف الحكومات على الإنترنت، بدلاً من الإشراف الحالي من الأسفل إلى الأعلى». فشبكة الإنترنت آخر مكان في العالم يُذعن للإشراف من الأعلى، و«نص المعاهدة لم يفرض أي اشتراطات على الإنترنت» حسب حمدون توريه. 2012 عام انتصار الإنترنت على أميركا، والمثل الأفريقي يقول «مهما بلغتَ من الحكمة لا تستطيع اقتفاء أثر الخطوات في الماء». وأميركا الفاحشة الثراء بالمعلومات والمدقعة الفقر في الحكمة تريد إجبار أمواج مليارات الاتصالات الهادرة في محيط الإنترنت على اقتفاء خطواتها. وأسهل الأمور أصعبها عند التفاوض حول الإنترنت مع واشنطن وهو اسم الإنترنت. أجل، اسم الإنترنت مشكلة كبيرة بالنسبة لممثلي واشنطن الذين يصرون على أن يُكتب اسم الإنترنت في المعاهدة بالحرف الصغير، مثل كلمات كمبيوتر، أو هاتف، أو تلفزيون أو أي أداة اتصال أخرى. وكما لو كان يخاطب أطفالاً صعبين اعتذر حمدون توريه بأن كلمة «الإنترنت» بالحرف الكبير تكررت في وثائق المؤتمر لسبب بسيط، وهو الاعتراف بالواقع الحالي، حيث «عالَمَا الاتصالات والإنترنت مرتبطان بشكل لا فكاك منه». وقد ولد الإنترنت أصلاً من تزاوج الاثنين. وفي المؤتمر تنازلتْ البلدان العربية وروسيا والصين حد الموافقة على ألا تبدأ المعاهدة الجديدة العمل إلا عام 2015 وألا تكون ملزمة قانونياً، ومع ذلك اعتبرها ممثلو واشنطن تهديداً خطيراً للإنترنت المفتوح. والمساومة الكبرى لمؤتمر دبي عدم تعليق المعاهدة على مطالبة الصين وروسيا بأن لا تحتكر شركة «آيكان» الأميركية سلطة الإشراف على وضع أسماء وعناوين المشتركين في الإنترنت، وتنظيم مرور الإنترنت العالمي. فهذه الشركة الممولة من قبل وزارة التجارة الأميركية تمثل البريد العالمي المركزي للإنترنت. وعندما نرسل رسالة بالبريد الإلكتروني إلى شخص، أو نتحدث معه بواسطة الإنترنت نفعل ذلك عبر جهازي كمبيوتر، ولكن بين هذين الجهازين عشرات أجهزة الكمبيوتر تعمل على تأمين الاتصال. والعالم المرتبط كله عبر أجهزة الكمبيوتر هو الإنترنت بالحرف الكبير. والطريق ما بين الكمبيوتر الذي يدون الرسائل ويرسلها، والكمبيوتر الذي يتسلمها ويقرأها أشد سحراً وخيالاً من روايات الخيال العلمي، فجميع المعطيات المرسلة بالبريد الإلكتروني، سواء كانت نصوصاً مكتوبة أو مسموعة أو مرئية لا تنتقل قطعة واحدة، بل حُزماً متناثرة تمر عبر أيّ طريق متوافر من مقاسم، وأجهزة اتصالات سلكية، أو لاسلكية، أو ألياف ضوئية، أو «ساتلات» إلى مركز «آيكان» في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة، ومنها إلى عنوان المرسَل عبر القارات والبلدان، وذلك كله خلال ثوان. والمثل الأفريقي يقول «الرجل السعيد يتزوج المرأة التي يحبها، لكن الرجل الأسعد يحب المرأة التي يتزوجها». وثلث سكان الأرض سعداء بشبكة الإنترنت، صحيح أن التعامل معها صعب أحياناً، وخطر في أحيان أخرى، وقد تتعرض للاختطاف، ولا يُعرف مصير العلاقة الزوجية، لكن «حيثما لا يوجد حمقى، فلن يكون هناك حكماء» حسب المثل الأفريقي.