في مدينة روما الجميلة ذات الآثار التاريخية العظيمة، شاركت في ندوة فكرية بعنوان: «أصوات إسلامية من أجل العقلانية والإصلاح»، مع صفوة من مصلحين عرب وغربيين، وذلك في الفترة 7 - 8 ديسمبر الجاري، ومنظم هذا اللقاء هو الباحث البريطاني د. ستيفن أولف، صاحب مشروع «المُصلح» وهو مشروع بحثي يُعنى بالإصلاح عبر ترجمة مقالات المصلحين العرب إلى اللغة الإنجليزية، في الساحة الغربية لإطلاع مثقفي الغرب على حركة التجديد والإصلاح الفكري والديني في العالم العربي. ويهدف المشروع من خلال موقعه ومن خلال وسائل أخرى كالندوات، إلى إيصال رسالة المصلحين العرب إلى الغرب والعمل على تصحيح الصورة الذهنية عن العرب والمسلمين بأنهم لا يتقبلون مفاهيم الحداثة والتنوير والعقلانية، وأن إسلامهم عصي على الإصلاح، وأن ساحاتهم محتلة من قبل متشددين وسلفيين و«إخوان مسلمين». ويسعى الباحث البريطاني د. ستيفن إلى تعريف مثقفي الغرب والمهتمين بشؤون الإصلاح في أوروبا وأميركا بالمثقفين العرب من ذوي التوجهات الليبرالية والإسلامية المستنيرة بهدف دعم ومساندة جهودهم الفكرية في نشر مفاهيم الحداثة العقلانية. وقد كانت فرصة رائعة أن التقي بهذه الصفوة من المفكرين العرب والغربيين، وأتعرف على أفكارهم من خلال الأوراق البحثية المقدمة والحوار الراقي الذي دار بين المشاركين، وكانت هناك أوراق عديدة مهمة، منها: ورقة د. شاكر النابلسي عن «الإصلاح الإسلامي: العقبات والفرص»، وقد تناول فيها معوقات الإصلاح في المجتمعات العربية، وذكر منها: انتشار الأمية في دول ذات وزن كبير، واحتلال الإسلاميين للساحة وهيمنتهم على المساجد والمنابر والفضائيات وكافة وسائل الإعلام لنشر أفكارهم واستخدامهم المال لشراء أصوات الناخبين، كما أن السلطة السياسية أصبحت بيدهم. وهذه الأمور كلها معوقات أمام الإصلاح الفكري المنشود. وتحدث الباحث عن الحداثة وقال: إنها تحتاج مجتمعاً صناعياً لا زراعياً تواكلياً، كما أن الحداثة بحاجة إلى سلطان فإن الله تعالى يزع بالسلطان بأكثر من القرآن، ولكن لا سلطان للحداثة في العالم العربي. وانتهي الباحث إلى أن الذين يعتقدون أو يراهنون على أن ما حصل في الغرب في الماضي يمكن حصوله في الشرق، هم على خطأ كبير، لأنه لا مقارنة بين حركات التنوير الغربي وما يحصل اليوم على الساحة العربية. كانت هناك آراء مغايرة في التعقيب على الباحث، وضحت أن الصورة العربية ليست بهذه القتامة وأن مفاهيم الحداثة والعقلانية والإصلاح تفعل فعلها في الأرض العربية والشعوب العربية في تغير مستمر مع حركة التاريخ. وجاءت ورقة الباحثة التونسية د. رجاء بن سلامة لتعكس صورة متفائلة عن وضعية المرأة العربية ومستقبلها، وقد طمأنت الباحثة الحضور بأن مكتسبات المرأة التونسية من التراث البورقيبي لا خوف عليها من الإسلاميين، فقوى المجتمع المدني في تونس قادرة على حمايتها. وراهنت الباحثة على قوى العولمة والعلمنة والانفتاح الثقافي وتحرير التأويل الديني والفنون كعوامل لصالح مستقبل حقوق المرأة، واعتبرت الواقع المادي المتمثل بخروج المرأة للعمل هو أقوى العوامل، وقد فعل فعله بأكثر من جهود المصلحين وأنهى عصر قوامة الرجل إلى الأبد ولم يبق إلا المساواة في الميراث. وطالبت الباحثة الغربيين بعدم دعم الإسلاميين والتزام الحياد، وقالت: نحن كفيلون بالإسلاميين. ورغم ما في الطرح من نظرة تفاؤلية إلا أن واقع المرأة العربية -إذا استثنينا تونس- لا يسمح بتعميم الحكم، فالقوامة قائمة وحقوق المرأة منتقصة وإن على درجات في مختلف المجتمعات العربية. وقدم المفكر العراقي المقيم في لندن د. عبدالخالق حسين ورقة مهمة هي صيحة تنبيه للغرب إلى مخاطر الإسلام السياسي على الحضارة الغربية وعلى الجاليات الإسلامية في الغرب، فالأصوليون والإسلاميون السياسيون يستغلون الحريات الغربية في نشر أفكارهم بين أبناء الجاليات الإسلامية ويجندونهم لمشاريعهم التخريبية، ومع ذلك فإن الحكومات الغربية لا تتخذ موقفاً حازماً في التعامل معهم بل نجد التساهل الذي يصل إلى حد (تدليل) المتطرفين، واستشهد بموقف الحكومة البريطانية من كبار الأصوليين وكيف تقف عاجزة عن التصرف على رغم أن هؤلاء يكبدون المجتمعات الغربية نفقات طائلة من أموال دافعي الضرائب. وحذر الباحث من مصير كارثي للجاليات الإسلامية إذا استمر الغربيون في غفلتهم وفي تعاملهم الساذج مع مخاطر الإسلاميين والإسلام السياسي، وما ذكره الباحث من تدليل التشريعات العقابية الغربية للمجرمين والإرهابيين حقيقة، وكلنا شهدنا الحكم المخفف على سفاح أوسلو «بريفك» الذي تفاخر بقتله (76) شاباً نرويجياً على مرأى ومسمع الجميع بحجة أنه يريد إنقاذ أوروبا من المسلمين! وأمتعنا المفكر هاشم صالح -أحد رموز التنوير العربي- بتجربته الشخصية في مجال التنوير منذ مجيئه إلى باريس عام 1979 من بلده سوريا، لاستكمال دراسته، وكيف التقى بمحمد أركون وتأثر به وتتلمذ عليه ومن ثم أصبح مترجماً لكتبه ومبشراً به وبفكر التنوير في العالم العربي عبر كتبه ومقالاته وترجماته للتنوير الغربي وإبرازه العناصر المضيئة في التراث الإسلامي لمواجهة العناصر المظلمة. وقدم د. كامل النجار ورقة بعنوان «القيمة الإصلاحية للقراءة النقدية للإسلام وللتاريخ الإسلامي المبكر». أما المفكر الليبرالي العفيف الأخضر فقد قدم مقترحات، منها: مأسسة هذا المؤتمر باسم «مؤتمر المصلح السنوي لإصلاح الإسلام في العالم العربي والغرب»، وإنشاء «مصلح» آخر لترجمة ما كتب عن الإسلام في الغرب، ودعوة ممثلين عن الأقليات في العالم العربي ومصلحين من خارج العرب للمشاركة فيه... إلخ، كما أرسل إلى المشاركين ورقته المعنونة بـ«إصلاح الإسلام ضروري وممكن»، وطالب فيها بدراسة الإسلام وتدريسه عبر منهجية علوم الأديان المقارنة بهدف إنتاج عقلانية دينية إسلامية والفرد المسلم المستقل بتفكيره وآرائه عن وصاية «مديري الضمير». وأخيراً فقد كانت مساهمتي بورقة عن «تشخيص العقلية العربية المسلمة تمهيداً للإصلاح»، وتحدثت فيها عن (4) أوهام حاكمة لهذه العقلية هي: 1- وهْم الماضي المزدهر الذي يجعلنا نبجِّل الأسلاف لدرجة أننا نلتمس منهم حلولاً لمشكلات مجتمعاتنا المعاصرة. 2- وهْم أعلوية الرجل على المرأة التي صبغت التشريعات العربية وجعلتها تنتقص من حقوق المرأة في مجالات مختلفة. 3- وهْم التآمر العالمي على الإسلام والمسلمين الذي يحتل المساحة العظمى للذهنية العربية المسلمة وبمختلف تياراتها السياسية: القومية واليسارية والإسلام السياسي. 4- وهْم تملك الحقيقة المطلقة، وهو السمة الفكرية الغالبة على كافة الفرق الإسلامية في منازعاتها حول مَن هي الفرقة الناجية؟! تلك هي رسالة الإصلاح في روما، وقد كانت رسالة ناجحة.