لا ريب أن التعدد والتنوع الثقافي سنة كونية وناموس ثابت، فالحياة أساسها التعدد والتنوع، فالإنسان هو محور التنمية والتطور وهو صانع الحضارات. ومن هنا جاء مصطلح حوار الحضارات ليعكس احترام الحوار وتجنب الهيمنة على محاور الطرح المتناول، والعمل على فهم المرجعيات والخصوصيّات التي تعود لكل ثقافة دون إقصاء، أو أن تنصهر حضارة في بوتقة الحضارة الأخرى لتوسيع رقعة مساحات التّفاهم والتّعاون والقبول غير المشروط، بحيث لا يكون الحوار لإثبات أحقيّة فكر أو ثقافة. فلا توجد حضارة أعلى قيمة من الأخرى، فالشخص في أدغال الأمازون لا يقل حضارة عن من يسكن في ناطحات السحاب في نيويورك أو لندن، فالقيم الحضارية يجب ألا تقاس بصورة مطلقة. التراث الإنساني هو تراث متوارث بين الثقافات، ولا يجب أن نحصره في الإنجاز المادي أو المعنوي وحسب، وعليه أرى عدم تأصيل فكرة الطبقية الحضارية، وإلا أصبح الحوار عقيماً وبلا جدوى تذكر، وإن كان بين النخبة الفكرية والسياسة والدينية...الخ من طرفين أو أكثر كي لا تصبح القضايا المحورية في حياة الشعوب مثل حقوق الإنسان مسيسة وموجهة لتستخدم في كثير من الحالات كأداة ضغط لدعم أجندات دول ومنظمات وجماعات بعينها بعيداً عن عولمة الحق والعدل، فكل شيء أصبح جزءاً من منظومة العولمة إلا حقوق الدول في ممارسة ما تراه مناسباً لحفظ أمنها وفق القوانين المعمول بها لديها وحقها في استرجاع أراضيها المسلوبة أو وضع حد ومعاقبة من ينتهك سيادة وحدة أراضيها وفق ما تمليه دساتيرها. الحوار يجب أن لا يكون ضمن إطار أولويات تراه جهة معينة جدير بالاهتمام وتقسيم دول العالم لمستويات حتى أخلاقية وفق رؤية حضارة واحدة للعالم ليصبح الحوار المتكافئ أمراً شبه مستحيل. فالتصنيف يكرس أن هناك طريقة واحدة لفهم الحق والفضيلة وضرورة وجود عالم يلهث للوصول لمستوى نمو معين، وحتى تكون جديرة بالحوار يجب أن تعكس قيمة ومعدلات نموه، نمو الحضارة التي وضعت التصنيف فكيف للحوار أن يكون أكثر من بذخ فكري نخبوي أو منهج تكتلي أو ميكيافيلية ديمقراطية تسير في اتجاه واحد، وباقي شعوب العالم متفرج سلبي على مسرح عبثي لا يفهم ما يقال فيه أغلب الحضور، ويكاد لا يفهم طرحه إلا من له فيه أدوار تمثيلية أو كتب نصوصه. فمنذ ثمانينيات القرن المنصرم تدعو المنظمات المختلفة دعوات صادقة «لحوار الحضارات»، ولكن ما دار في تلك الجلسات، وما يدور حالياً لا يزال سجين الأوراق، لا تلحظ له نتائج ملموسة على مستوى الشعوب ليبقى كل طرف في الأساس لا يعترف بالآخر من حيث خصوصيته وتفرده بعادات وتقاليد وممارسات سياسية وتجارية واجتماعية وأخلاقية وموروث ثقافي وروحي تخصه وحده أو يشترك بها مع الآخرين كقيم إنسانية جديرة بالاحترام كحق أصيل لا تعيبه. ولا تجعله أقل أو أفضل من الحضارات الأخرى، أو يصر كل طرف بحتمية قصور فهم الآخر للقضية ليدور بينهما جدل بيزنطي لإقناع كل منهما الآخر، أنه على حق ولديه الدلائل والثبوتات متناسياً أن من وضعها في الأساس، قد تكون لديه زاوية الرؤية ضيقة ولا يرى غير ما هو موجود أمامه مباشرة، ولا تعنيه جذور المشكلة وتفاصيلها وجوهرها الحقيقي، وكأن الفضيلة الغربية وما تعتقد به المجتمعات الغربية، هو المقياس الفصل بين الحق والباطل ويجب على باقي الشعوب الانصياع وإلا جلدها جلاد الضمير الغربي بتقرير برلماني أو إدانة أممية باسم ديكتاتورية التفوق العلمي والاقتصادي والسياسي والعسكري. الحديث عن مفهوم التفوق الطبيعي الحتمي لحضارة أو جنس ما، وتصويره بأنه مسألة علمية، هو طرح رجعي غير موضوعي، لا يخدم الوصول لحوار حضاري حقيقي، يلامس واقع جميع الناس وتشارك فيه الأغلبية. فالطريقة الوحيدة للحوار بين الحضارات على صورة عالمية دون إيثار طرف بطرح وجهة نظره والتسويق لها بأنها النموذج، الذي يجب أن يتبع كنموذج عالمي إنساني هو الحوار الإنساني الجمعي التكاملي لبناء جسور التقارب ومعرفة وقبول الآخر من خلال مختلف وسائل الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي والوسائل الإعلامية المختلفة والفنون والآداب والعلوم والرياضات المختلفة... كصناعة السينما والمسلسلات والبرامج التلفزيونية الحوارية على سبيل المثال، فما المانع أن يشارك أكثر من نجم حواري من مختلف الثقافات لإطلاق قناة حوارية تطلق أول برنامج حوار عالمي بمفهوم العالمية على أن يطرح البرنامج المسائل الإنسانية الشائكة من منظور إنساني بحت، ولا يتبنى مفاهيم ومبادئ حضارة دون الأخرى مع التركيز على أهمية الثقافة والدور الذي يجب أن يلعبه الأدب والفن ضمن إستراتيجية فاعلة تمهد لحوار حضاري يحمل رؤى عالمية. كما يجب أن تلعب برامج التنمية الأممية والمساعدات الإنسانية وبرامج التواصل الحضاري والثقافي وتمكين الشعوب دوراً حيوياً في صياغة المواقف السلمية المشتركة. فقد حان الوقت أن لا تتبنى الدول الكبرى سياسات وبرامج تكلف مليارات الدولارات مبنية على مفهوم لا يناسب الوتيرة التي تتغير فيها المجتمعات، ألا وهو طرح مفهوم صراع الحضارات ووضع سياسات وإستراتيجيات على هذا الأساس. فمجهود ردم الهوة، يبدأ من سياسة الحكومات، وما توضع من ميزانيات في هذا الشأن، والذي يجب أن يعاد توجيهه للصرف على حوار مستدام وتقريب وجهات النظر وتمهيد الأرضية المناسبة لفهم الشعوب لبعضها البعض من خلال حوار لا تسيره رغبة الظفر بمصالح وطنية لجهة بعينها، أو وجود أجندة مسبقة ومحاولة جعل الحوار سياسة خارجية ودبلوماسية ثقافية. على النقيض يجب أن يكون الحوار ليس أكثر من أنسنة الإنسانية لجعل مبادئ وقيم كل شعب جزءاً لا يتجزأ من المبادئ والقيم الدولية، فلماذا لا تؤسس إحدى الدول العربية مركزاً للتسامح الحضاري الدولي ليكون الأساس واللبنة الأولى لحوار بين الشعوب، يبدأ من القاعدة. وأتساءل لماذا لا تدرس مادة التقارب والتسامح الحضاري في مدارسنا كأول دولة في العالم تدرج هذه المادة كجزء من منظومتها التعليمية لينشأ النشء من سن مبكرة جداً على تقبل الآخر، بل احترام وتقدير اختلافه.