عندما كنت في المغرب الأسبوع المنصرم انعقد المؤتمر التاسع لحزب «الاتحاد الاشتراكي للقوى الشعبية» أكبر أحزاب «اليسار» المغربي. المؤتمر التأم في ظرفية حاسمة من مسار الحزب الذي تنادت قيادته التاريخية وزعاماته الجديدة على ضرورة إجراء تقويم نقدي صارم لمساره بعد مرور أربع عشرة سنة على تجربته في المشاركة في الحكم. تراجع الاتحاد الاشتراكي من المركز الأول في الخريطة الانتخابية المغربية إلى موقع متدن في انتخابات السنة الماضية، التي فاز فيها حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي، ورجع إلى صفوف المعارضة رافضاً الاستمرار في حقل السلطة. تستدعي تجربة الاتحاد الاشتراكي تقويماً دقيقاً واهتماماً خاصاً، باعتبار أن هذا الحزب العريق الذي اضطلع بدور محوري في استقلال المغرب وبناء الدولة الحديثة توافرت له من بين كل أحزاب «اليسار» العربي ميزات خاصة أبرزها: - وجود زعامة تاريخية متميزة تشكلت من رموز قيادية تجمع بين الخصال الكارزماتية والبراعة السياسية من أبرزها:المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد وعمر بن جلون. في الوقت الذي خرجت أغلب قيادات أحزاب «اليسار» العربي من التنظيمات السرية والميليشيات المسلحة. - اعتماد خطاب تحديثي، لئن انتقل تدريجياً منذ الستينيات إلى الصياغات النظرية والإيديولوجية الماركسية، إلا أنه ظل متشبثاً بالشرعية الملكية في سياق العقد الذي كرسه الحدث «ثورة الملك والشعب»(حلف الملك محمد الخامس مع الحركة الوطنية لمقاومة الاستعمار وتحرير البلاد). فعلى الرغم من السنوات العاصفة التي مر بها المغرب في الستينيات والسبعينيات، ظل الاشتراكيون المغاربة متشبثين بمسلك الملكية الدستورية. ولقد جنب المغرب هذا التوافق حول الملكية الديمقراطية هزات عنيفة عرفتها بلدان أخرى قامت فيها تيارات يسارية راديكالية عنيفة. - توافر نخبة فكرية مرموقة ساهمت بتطوير الخطاب الإيديولوجي والنظري للحزب، بدل استنساخ الأطروحات الماركسية الكلاسيكية التي كانت مهيمنة أوانها على اتجاهات «اليسار» العربي. والواقع أن أغلب الوجوه الفكرية البارزة في المغرب المعاصر انتمت للحزب وناضلت من داخله، ومن الأسماء المعروفة نذكر: المفكر السياسي عبد الله إبراهيم والمؤرخ والمفكر عبدالله العروي، والفيلسوفان محمد عابد الجابري، وعلي أومليل والشاعر الروائي محمد الأشعري. تراجع الحزب له دون شك أسباب داخلية متعددة ليس هنا مجال التعرض لها، بيد أنه يندرج أيضاً في سياق أوسع هو انهيار «اليسار» العربي بمجمله. لا نعني هنا أحزاب «اليسار» الحاكمة التي كانت في حقيقتها تشكيلات مركبة تتبنى خطاب الاشتراكية الاجتماعية وتعتمد شكل التنظيم المركزي الأحادي المألوف في الأنظمة الشيوعية، لكنها استندت في الغالب على البنيات العصبية والطائفية الأكثر تخلفاً (كما هو شأن حزب البعث العربي الاشتراكي في نسختيه العراقية والسورية). وإذا استثنينا تجربة الحزب الشيوعي السوداني، فإن الأحزاب الماركسية ظلت ضعيفة وهشة فكرياً وتنظيمياً في البلدان العربية.ولقد انتبه في منتصف الستينيات «عبد الله العروي» إلى أن الماركسية اللينينية الثورية غير ملائمة لأوضاع المجتمع العربي، مقترحاً مسلك «الماركسية التاريخانية»، التي تستوعب المسار الحداثي التنويري للتجربة الأوروبية بدل مناهضة القيم الليبرالية من منطلق مجابهة الرأسمالية والاستغلال الطبقي. ومع أن دعوة العروي قد أثرت في مفكرين بارزين من الماركسيين العرب هما «الياس مرقص» و«ياسين الحافظ»، فإن خط «تعريب الماركسية» لم يفض إلى نتائج نظرية وعملية نوعية، كما لم تنجح الصياغات الجديدة الباهرة التي بلورها الاقتصادي المصري «سمير أمين» لتطوير «الماركسية الجنوبية». والمفارقة البادية للعيان هي أن انحسار الماركسية العربية منذ منتصف السبعينيات، واكبه نفاذ أفكار ومقولات «اليسار» في الخطاب الإسلامي الجديد في سعي صريح للقطيعة مع الأيديولوجيا الإخوانية الجامدة. في هذا السياق، ظهرت محاولات «حسن حنفي» لبلورة «لاهوت تحرير إسلامي»، وأنشأ مجلته «اليسار الإسلامي» التي لم تستمر طويلا في الصدور. وانتقلت التجربة إلى تونس التي تأسس فيها منبر «الإسلاميين التقدميين» المنفصلين عن حركة «الاتجاه الإسلامي»، التي يتزعمها «راشد الغنوشي»، وشكلت مجلة «15-21» المنبر الفكري لهذا الخط المنتسب لحركية «اليسار الإسلامي». ولم يكن التأثير الإيراني بعيداً عن هذه التحولات، بعد انتشار كتابات وأفكار «علي شريعتي»، الذي مزج المقولات الماركسية مع التراث الشيعي. إلا أن تشكيلات اليسار الإسلامي لم تكن أكثر حظاً من الأحزاب «اليسارية» العربية الأخرى التي دخل بعضها معترك الصراع الديمقراطي في البلدان التي شهدت بعض خطوات الانفتاح السياسي. لم يحقق حزب «التجمع التقدمي» المصري مكاسب انتخابية كبرى بعد عودة الحياة السياسية التعددية منذ 1976 وإن ظل في غالب الأحيان ممثلا في البرلمان، ولم يكن الحزب التقدمي وحركة التجديد (الحزب الشيوعي سابقاً) في تونس أكثر حظاً، ولا حزب «جبهة القوى الاشتراكية»، الذي أسسه «حسين آيت أحمد» في الجزائر، أو الحزب الاشتراكي اليمني الذي كان حاكماً في الجنوب أيام التجزئة. ولم يتغير المشهد كثيراً بعد «الربيع العربي»، رغم النتيجة الباهرة التي حققها الوجه القيادي الناصري «حمدين صباحي» في الانتخابات الرئاسية، مما لا يمكن تفسيره ميكانيكياً بدعم أحزاب وتنظيمات «اليسار» المصري. أظهرت دينامية «الربيع العربي» أن الساحة السياسية التي غدت تتسم بالتنوع والتعددية تتمحور حول قوتين محوريتين :التيار الإسلامي بمكوناته العديدة القوي تنظيمياً، والتيار الليبرالي الذي هو في الواقع اتجاه واسع متنوع الروافد والخلفيات والتشكيلات التنظيمية مما يفسر نجاعته الحركية وضعف أدائه الانتخابي. أخفق «اليسار العربي» في استعادة حيويته الفكرية والإيديولوجية، وظهرت بوادر جلية على أن التيارات الإسلامية امتصت الخطاب الاحتجاجي الشعبوي لليسار في مرحلة لم تعد مقولة الصراع الطبقي، وما يرتبط بها من أمل الثورة الاجتماعية الراديكالية قادرة على تحريك الجمهور واستقطاب الفئات المحرومة والمهمشة المستهدفة. كان المرحوم الجابري يقول إن معركة اليسار العربي الراهنة هي الاستنبات في أرضية الشرعية الإسلامية، وإلا نجحت تيارات الإسلام السياسي في التحكم في القناة الوحيدة للوصول للقاعدة الشعبية العريضة.