حمل رجل مسنّ في غزّة لافتة كُتب عليها: «تأخذون مائي، وتحرقون أشجار الزيتون التي أملكها، وتدمّرون منزلي، وتسلبونني وظيفتي، وتسرقون أرضي، وتسجنون أبي، وتقتلون أمي، وتقصفون بلادي، وتجوّعوننا جميعاً، وتهينوننا جميعاً، ولكنّ اللوم يقع علي، فأنا أطلقت صاروخاً للرد». رسالة الرجل المسن توفّر السياق المناسب لأحدث حلقة من العقاب الوحشي المفروض على غزة. تعود الجرائم إلى عام 1948، عندما هرب مئات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم في جو من الرعب، وطردتهم إلى غزة القوات الإسرائيلية المحتلّة، التي واصلت نقل الفلسطينيين عبر الحدود بالشاحنات، بعد سنوات من وقف إطلاق النار الرسمي. واتّخذ العقاب أشكالاً جديدة، عندما احتلّت إسرائيل قطاع غزّة في عام 1967. وتُعلمنا الدراسات الأكاديمية الإسرائيلية الصادرة مؤخراً (لا سيّما كتاب من تأليف آفي راز بعنوان «العروس والمهر: إسرائيل، والأردن، وفلسطين في أعقاب حرب يونيو 1967»)، أن هدف الحكومة قام على توجيه اللاجئين إلى صحراء سيناء – وباقي الشعب أيضاً إن أمكن. وتمّت عمليات الطرد من غزة بأوامر مباشرة من الجنرال يشعياهو جافيش، قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي. وكانت عمليات الطرد من الضفة الغربية تفوقها جذريةً إلى حدّ كبير، حيث لجأت إسرائيل إلى وسائل مراوغة لمنع عودة المطرودين، في انتهاك مباشر لأوامر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد تبقى أهداف الطرد قائمة اليوم، وتُشكّل عاملاً يساهم في تردّد مصر حيال فتح الحدود والسماح بالتنقل الحر للناس والسلع، الذي بات ممنوعاً جرّاء حصار إسرائيلي بدعم من الولايات المتحدة. وقد احترمت حماس هدنة قصيرة الأمد في عام 2008، إلى أن اخترقتها إسرائيل في نوفمبر. ووسط تجاهل إسرائيلي لعروض هدنة إضافية، شنّت عملية «الرصاص المصبوب» الإجرامية في ديسمبر 2008، وهكذا، تواصلت الأمور على هذا النحو، في حين استمرت الولايات المتحدة وإسرائيل في رفض دعوات حماس للتوصل إلى هدنة طويلة الأمد، وإلى تسوية سياسية تقوم على حل دولتين، يتماشى مع الآراء الدولية المتوافق عليها، بأن الولايات المتحدة صدّت القرارات منذ عام 1976، عندما استعملت حقّ «الفيتو» لنقض قرار لمجلس الأمن في هذا الصدد، كانت قد اقترحته الدول العربية الكبرى. وخلال الآونة الأخيرة، بذلت واشنطن قصارى جهدها لصدّ مبادرة فلسطينية ترمي إلى الارتقاء بعضويتها في الأمم المتحدة، ولكنها فشلت، في ظلّ جوّ من العزلة الدولية شبه الكاملة كالمعتاد. وكانت الأسباب تكشف أموراً كثيرة، حيث أن فلسطين قد تلجأ إلى المحكمة الجنائية الدولية لكشف الجرائم الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة. ومن بين عناصر التعذيب المتواصل لقطاع غزّة «المنطقة العازلة» الإسرائيلية ضمن القطاع، التي تمنع الفلسطينيين من دخول نحو نصف المنطقة المحدودة التي تصلح للزراعة في غزة. لقد قام أول الأفعال في عملية «عمود السحاب» على اغتيال أحمد الجعبري. أما تبرير الاغتيال، فهو أنه خلال هذه السنوات الخمس، عمل الجعبري على إنشاء قوة عسكرية لحركة «حماس»، تملك صواريخ من إيران. وجاء سبب أكثر منطقية من ناشط السلام الإسرائيلي جيرشون باسكين، الذي كان يشارك في مفاوضات مباشرة مع الجعبري طوال سنوات، شملت خطط إطلاق سراح محتمل للجندي الإسرائيلي المأسور جلعاد شاليط. ويفيد باسكين قائلاً إنه قبل ساعات من اغتيال الجعبري، حصل هذا الأخير «على مسودة اتفاقية هدنة دائمة مع إسرائيل، تشمل آليات ترمي إلى احترام وقف إطلاق النار في حال تأزّمت الأمور بين إسرائيل والأطراف المتواجدة في قطاع غزة». وبالتالي، تمّت هدنة دعت إليها «حماس» في 12 نوفمبر الماضي، ويبدو أن إسرائيل استغلّتها، ووجّهت الانتباه إلى الحدود السورية، على أمل أن يخفف قادة «حماس» مستويات الحراسة، ما يسهّل عملية اغتيال. وطوال هذه السنوات، تُرِكَت غزة على حالة تسمح لها بالبقاء ليس إلا، وبقيت محاصَرةً من الأرض والبحر والجو. أما تبريرات الهجوم، فكانت هي التالي كالمعتاد. ويمكننا أن نضع جانباً التصريحات القابلة للتوقّع، التي أطلقها مرتكبو الجريمة في إسرائيل وواشنطن. إلاّ أنّ أشخاصاُ لائقين، حتّى هم، يسألون عمّا يجب أن تفعله إسرائيل عند مهاجمتها بوابل من الصواريخ. إنّه لسؤال منصف، وثمّة إجابات مباشرة عليه. قد يقوم الجواب الأول على الالتزام بالقانون الدولي، الذي يتيح استعمال القوة من دون موافقة مجلس الأمن في حالة محدّدة واحدة: وهي الدفاع عن النفس، بعد إعلام مجلس الأمن بهجوم مسلح، إلى أن يتصرّف هذا الأخير، تماشياً مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل على اطّلاع جيّد بهذا البند من الميثاق، الذي تذرّعت به عند نشوب حرب يونيو 1967. إلاّ أنّ الطعن الإسرائيلي لم يؤدّ طبعاً إلى أي نتيجة، بعد أن تأكّد بسرعة أن إسرائيل هي التي شنت الهجوم. ولم تتبع إسرائيل هذا المسار في نوفمبر الماضي، مع معرفتها بما سيكشفه نقاش يجري في صلب مجلس الأمن. وقد تقوم إجابة محدّدة أخرى على الموافقة على هدنة، وهو أمر كان يبدو محتملاً إلى حد كبير قبل شنّ العملية في 14نوفمبر الماضي. وثمة أجوبة تصل إلى مدى أبعد بكثير، وشاءت الصدفة أن تتم مناقشة أحدها في العدد الحالي من مجلة «ناشيونال إنترست»، حيث يصف باحثا الشؤون الآسيوية «رافايلو بانتوتشي» و«أليكساندروس بيترسن» ردّ الفعل الصيني بعد المشاغبات التي شهدها إقليم شينجيانغ الغربي، «حيث قامت عصابات من الإيجور بمسيرات في أرجاء المدينة وأقدمت على ضرب الصينيين العزّل حت الموت». وسرعان ما انطلق الرئيس الصيني في رحلة بالطائرة إلى الإقليم لتولي الأمور، فطُرد قادة كباراً في المؤسسة الأمنية، وتم إطلاق مجموعة كبيرة من مشاريع التنمية للتطرق إلى الأسباب الكامنة خلف الاضطرابات. وفي غزة أيضاً، يُعتبر رد فعل حضاري محتملاً. وقد تضع الولايات المتحدة وإسرائيل حداً للهجوم عديم الرحمة المتواصل، وتفتح الحدود، وتوفّر سبل إعادة الإعمار – وإن أمكن تصوّر الأمر، تُطلق عمليات ترميم جرّاء عقود من العنف والاضطهاد. لقد ورد في اتفاق وقف إطلاق النار أن الإجراءات الواجب تطبيقها في نهاية الحصار واستهداف المدنيين في المناطق الحدودية «يجب أن تبدأ بعد 24 ساعة من بدء وقف إطلاق النار». لا دليل على اتخاذ خطوات في هذا الاتجاه، كما أنه لا دليل على أي رغبة أميركية-إسرائيلية بربط أوصال المناطق الغزّاوية التي تم فصلها عن الضفة الغربية، في انتهاك لاتفاقية أوسلو، وبوضع حدّ للمستوطنات غير المشروعة وبرامج التطوير في الضفة الغربية، التي تم تصميمها لتقويض أي تسوية سياسية، أو بمعنى آخر للتخلي عن مبدأ الرفض الذي ساد في العقود الماضية. ذات يوم، ومن الضروري أن يكون قريباً، سيكون للعالم ردّ على المناشدة الصادرة عن محامي حقوق الإنسان الغزاوي راجي الصوراني، فيما كانت القذائف تنهمر مرة أخرى على المدنيين العزّل في غزة: «نطالب بالعدل والمحاسبية. حلمنا أن نعيش حياة طبيعية، بحرية وكرامة». نعوم تشومسكي أستاذ الفلسفة واللغويات بـ«معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» ينشر بترتيب مع خدمة «نيويورك تايمز»