ثمة لحظات مصيرية تكون فيها المجتمعات على مفترق طرق، حيث تواجه امتحاناً قاسياً لاختيار ما ينبغي أن يكون مستقبلها عليه خلال عقود من السنين. كل قرار يكون حينها مرتبطاً بالوعي، بإدراك ما وراء التفاصيل الآنية، والأحداث اليومية، والضباب الذي يحيط بالأجندة الحقيقية التي تتخفى بين المزايدات السياسية والتلاعب بمشاعر الناخبين. الرؤية تكون واضحة في الإجابة البسيطة جداً على الأسئلة الكبيرة: كيف ستكون الحياة بعد هذا؟ هل سنكون أفضل مما كنا عليه أم سيكون حالنا أسوأ؟ هل سنكون أكثر أمناً؟ أو أسعد ؟ هل سنكون أغنى؟ أم أكثر خوفاً وذلاً وفقراً؟ وهذا هو السؤال الذي سيجيبنا اليوم عليه كل أولئك الذين يرزحون تحت حكم الإسلاميين في السودان، وفي ليبيا وفي تونس ومصر اليوم، وربما بعد عام أو أقل، وكذلك هو السؤال الذي يجب أن يطرحه الناس في غزة. ولكن لن يكون الناس شجعاناً في الإجابة، وهم وجلون من أن يستدعوا أو يقبض عليهم أو أن يكونوا عرضة لإجراءات انتقامية، أو يلقوا من النوافذ، أو يعدموا بتهم الخيانة والتخابر لمجرد أنهم عبروا عن شعورهم تجاه من يحكمهم. كل ما سعت إليه الإنسانية منذ فجر الحضارة هو البحث الدؤوب والمضني عن أفضل الطرق للعيش تحت حكم صالح، وعبر سبعة آلاف عام أو تزيد كانت رحلتنا نحن بني الإنسان للوصول إلى المدينة الفاضلة، رحلتنا التي ضمختها الدموع والدماء والشقاء والآلام والفقد والإذلال والقهر والسجون وحروب الإبادة، مصحوبة بحكمة الفلاسفة، وخبرة الساسة، والتجارب الروحية الدينية. وكانت على الدوام توجهات الأباطرة والملوك والخلفاء والسلاطين والأمراء هي أكبر العوامل في صياغة الحاضر وأكثر المؤثرات في حياكة مستقبل أممهم وشعوبهم. كانت أوروبا في القرن الخامس عشر قد عرفت أكبر ثورات الأقنان منذ سبارتاكوس، وقبل «لوثر» بسنوات طويلة، انتفض الفلاحون في ألمانيا. ثورات تتبعها ثورات كلها كانت تقابل بالسحق والقتل من قبل النبلاء والأمراء، ولكن كل تلك الحركات كانت متلفعة بلباس الدين، وأحياناً كانت هرطقات وتمرداً على المسيحية، ولكنها كانت كلها ثورة ضد العبودية والاستئثار والقهر، والمثير أن الفلاحين كانوا أيضاً يطالبون أحياناً بتوحيد الممالك الألمانية التي كانت تتناحر وتتقاتل فيما بينها. نزوات هنري الثامن وشغفه بالنساء كانت هي السبب في أن تكون إنجلترا أولى الملكيات التي تعزل نفسها عن سلطة الفاتيكان، وتنحو نحو توليفة سمحت لها بأن تحافظ قدر المستطاع على عدم انزلاقها نحو حروب دينية أهلية، بين الطوائف المسيحية. وبينما كانت حسنة من هنري الثامن حذره من الاحتراب الطائفي بين مواطنيه، انزلق حفيده لويس الرابع عشر إمبراطور فرنسا في استئصال كل من لا يتفق مع عقيدته. وحين كانت مجتمعات أوروبية تتحول بهدوء وسلاسة نحو الإصلاح الديني بعيداً عن القضاء على الطوائف الأخرى، احتاجت دول أخرى قرناً أو قرنين كي تصل إلى السلام والوئام بين طوائفها. الغريب أنه حدث الأمر نفسه بعد قرنين حيث كانت الممالك التي تجنبت القمع الديني على رعاياها قبل قرون، هي أكثر الدول سلاسة وهدوءاً في الانتقال إلى الديمقراطية منذ منتصف القرن التاسع عشر. فهل تكون الدول العربية التي تتمتع اليوم بمستوى عالٍ من الحريات الاجتماعية، والأقل طائفية، والأكثر رفاهاً هي الأكثر قابلية للتحول السلس نحو حكم ديمقراطي بنكهة خاصة؟