منذ اليوم ستتخذ احتفالات عيد الميلاد في مدينة نيوتاون بولاية كونيكتيكيت، معنى مختلفاً تمام الاختلاف عن معناها قبل هذا اليوم. وعلى رغم أنه يصعب علينا تخيل حجم الألم والفزع اللذين يشعر بهما مجتمع المدينة في الوقت الراهن، جراء عنف يصعب وصفه؛ إلا أننا مطالبون مع ذلك بالتمعن في ملابسات هذا العنف ومغزاه، واستخلاص الدرس والعبرة من هذه المأساة المروعة، لأن ما حدث في نيوتاون يمكن أن يحدث في أي مدينة أميركية أخرى. وعائلات المدينة لن تستشعر مطلقاً بعد الآن براءة موسم احتفالات عيد الميلاد، وستفتقد إلى الأبد البهجة والمسرة اللتين كانت تتوقعهما هي وأطفالها خلال انتظارهم لبركات ذلك اليوم المجيد الذي يحيي ذكرى مولد المسيح، عليه السلام. فمنذ اليوم لن يكون هذا اليوم مناسبة للاحتفال، وإنما ذكرى للأسى والحزن العميق. ولاشك أن فجاجة اللحظة ودمويتها الصادمة ستبهَت مع مرور الأيام، كما يحدث دوماً، ولكن الحزن والشعور بالفقدان لن يغيبا أبداً عن ذاكرة الأجيال المتعاقبة من تلك العائلات المنكوبة التي فقدت أطفالها في مذبحة مروعة. وإذا ما ذكرنا العنف الذي انفجر في نيوتاون بشيء، فإن هذا الشيء هو أن احتفالات أعياد الميلاد كانت تختلط دوماً بالألم والحزن. ففي بيت لحم، وبعد أفراح مولد المسيح بوقت قصير يخبرنا الإنجيل بأن الملك هيرودوس الذي كان يحكم فلسطين في ذلك الزمن، عندما علم بمولد طفل (المسيح) سوف يصبح ملكاً ذات يوم، أرسل رجاله ليذبحوا كل المواليد الجدد في المدينة، حتى يدفع عن نفسه ذلك التهديد الذي كان يؤرقه. ولنا أن نتخيل الفزع الذي حل بمريم العذراء ومن معها عندما فروا إلى مصر بالمولود المقدس باحثين عن الأمان في أرض غريبة. وقصة الإنجيل عند قراءتها وتأمل مغزاها تهيئنا لتحمل المزيد من الألم ونحن نقرأ عن الخوف الذي شعرت به مريم العذراء بعد فقدان طفلها في معبد القدس المزدحم، وكذلك الألم الذي أجبرت على تحمله وهي تشاهد ابنها الوحيد وهو يؤخذ أسيراً، وُيعذب، من دون أدنى رحمة. عبر القرون دأب البشر على تطهير رواية الإنجيل مما احتوت عليه من ألم وخوف، وجعلوا من ميلاد المسيح ذكرى مطهرة ومناسبة للمسرة والفرحة. وتحولت هذه الذكرى الخالدة بمرور القرون إلى مناسبة للأخذ والعطاء، مناسبة جميلة تزينها الأضواء وشجرة عيد الميلاد المبهجة، وهدايا بابا نويل اللطيفة. وعلى رغم أن هناك كثيرين ممن ينتقدون الإفراط في إضفاء الطابع التجاري على تلك الذكرى المقدسة على حساب الطابع الديني، إلا أن تلك الانتقادات لا تجد آذاناً صاغية بل يقابل قائلوها باللعنات، لتظل هناك تلك الأشياء المدهشة المقترنة بعيد الميلاد التي خلقناها لأطفالنا وجعلناهم ينتظرونها على أحر من الجمر بأعين مفعمة بالانتظار واللهفة. ولكننا، ومن خلال حادث واحد مروع، نجد أنفسنا مجبرين على تذكر مدى هشاشة فرحتنا، وإدراك قدرة الشر في تجلياته المختلفة على تمزيق أركان العالم الذي بنيناه لأنفسنا، واطمأنينا إليه. ولذلك كله، يتعين على سكان نيوتاون، كونيكتيكيت، ويتعين علينا جميعاً، وعلى كل من ظنوا أنهم بعيدون عما حدث في تلك المدينة الجريحة، أن يحاولوا إدراك مدى الفزع والرعب الذي حل بالآباء الذين رأوا أطفالهم وهم ينتزعون منهم في غمضة عين، وأن يتخيلوا كذلك الصدمة التي شعر به جيران وأصدقاء هؤلاء الآباء والأمهات الذين يعيشون الآن آثار تلك المعاناة المروعة، التي ترتبت عن تلك الجريمة العبثية. وللأسف، فإن كل ما نستطيع عمله في الوقت الراهن هو أن نتذكر هؤلاء ونتعاطف معهم في محنتهم، ونصلي من أجل أن يلهمهم الرب القدرة على التحمل والصبر. ويمكننا أيضاً، بل ويجب علينا أن نتخلص من لعنة عنف السلاح في بلادنا، أميركا. كما يمكننا، بل يجب علينا تفحص جذور مرض العنف الدموي الذي يواصل بوتيرة تبعث على القلق، حصد المزيد من الأرواح البريئة. لقد رأينا من قبل حالات عديدة للقتل العبثي متمثلة في خمسة أحداث قتل جماعي حصدت 60 ضحية خلال الشهور الخمسة الماضية وحدها. ويجب علينا أن نضع نهاية لهذا الجنون المطبق بأي ثمن. وبعد ذلك كله، ستبقى في ذاكرتنا دوماً نيوتاون، وأطفالها الذين غيبهم الموت، وعائلاتهم التي زلزلها الحزن. فمن خلال عمل واحد مجنون ارتُكب ذات يوم قاتم السواد، دخل مجتمع هذه المدينة، على غير رغبة منه، إلى مفردات قاموسنا الوطني. فتلك المدينة التي وصفها أحد قاطنيها يوماً بأنها «صغيرة وهادئة» سيتم تذكرها من قبلنا جميعاً اعتباراً من هذا اليوم الدامي، مقرونة بكل المذابح المروعة التي حدثت في مدرسة كولومباين في كولورادو، وبما حدث في جامعة «فرجينيا تك»، وما حدث في صالة سينما أورورا في مقاطعة دينفر-كولورادو. ستنحسر الأضواء عن نيوتاون. وفي احتفالات عيد الميلاد في السنوات القادمة سيكون هناك دوماً ذلك الإحساس المضني بالخواء والفقد. بإمكاننا تمرير تشريعات -ويجب أن نفعل ذلك- ولكن ذلك سيظل دوماً عملاً متأخراً بل متأخراً كثيراً عن موعده، بالنسبة للأطفال الأبرياء، الذين ماتوا دون ذنب ولا جريرة، وبالنسبة لعائلاتهم المكلومة، ومجتمع مدينتهم المصدوم، وهو ما يجب علينا ألا ننساه أبداً.