في الوقت الذي تمر فيه وسائل الإعلام الغربية بفترة أفول، نجد أن الوضع يختلف اختلافاً بيناً بالنسبة لوسائل الإعلام الهندية. فعلى مدى العقد الأخير، شهدت القنوات التلفزيونية والصحف المطبوعة طفرة غير مسبوقة، جعلت الهند التي يبلغ تعداد سكانها 1,2 مليار نسمة حسب آخر تعداد أجرى في البلاد، واحدة من أكبر الدول في العالم التي تملك صناعة إعلامية مطبوعة ومرئية. والصحف التي تصدر في الهند لا تقتصر على اللغتين الإنجليزية والهندية فحسب، بل أننا نجد صحفاً وقنوات تلفزيونية ناطقة بمختلف اللغات المتداولة في ولايات الهند المختلفة. والنمو المفاجئ في وسائل الإعلام الهندية المعروفة بجرأتها في تقصي الأخبار، قاد إلى بعض الممارسات غير المستساغة في التغطيات الخبرية. بعض تلك الممارسات الرديئة تبدت بشكل واضح في القضية الأخيرة المرفوعة ضد قناة "ذي نيوز" وهي قناة تلفزيونية هندية تبث باللغة الهندية، وهي اللغة القومية للبلاد، والتي اتهمت فيها القناة بمحاولة عقد صفقة بمليار دولار مع رجل صناعة هندي وسياسي مشهور من خلال ابتزازه. وتشير الأنباء التي تسربت عن القضية أن محرري "ذي نيوز" قد وعدوا بأن قناتهم سوف تمتنع بموجب تلك الصفقة عن إذاعة أي قصص خبرية تربط بين شركة "السيد جندال"، وبين تخصيص غير قانوني لمناجم فحم. وقد تم القبض على اثنين من محرري "ذي نيوز" عقب شكوى تقدم بها "السيد جندال" اتهم فيها المحررين بمحاولة ابتزاز أموال من شركته. ولم يكتف "جندال" بذلك، بل أذاع شريطاً مصوراً سراً لاجتماع عقد بين مسؤولي شركته التنفيذيين مع محرري "القناة"، وطلب اعتباره دليلاً مادياً على أن القناة كانت تحاول ابتزاز شركته. وعلى الرغم من أن مسؤولي القناة قد أنكروا التهم التي وجهها "جندال" فإنهم يواجهون تهماً بالابتزاز والتآمر الإجرامي أمام المحاكم الهندية التي أخذت الاتهامات بمنتهى الجدية ورفضت الإفراج عن المحررين المتهمين بكفالة حتى الآن. وفي الوقت الراهن يتابع الهنود القضية باهتمام بالغ لمعرفة كيف ستؤثر على سمعة القناة التلفزيونية المشهورة التي تمتلك أيضاً قناة فرعية لعرض أفلام سينمائية باللغة العربية يطلق عليها "ذي أريبيا". وقد أثارت قضية قناة "ذي نيوز" ضجة كبيرة في أوساط وسائل الإعلام الهندية التي لم تشهد قضية مماثلة من قبل. وعلى الرغم من أن القضية ليست قضية منعزلة كما يحاول البعض أن يوحي، فإن الحقيقة هي أن وسائل الإعلام الهندية تواجه منذ فترة طويلة تحدياً يتمثل في كيفية التعامل مع ما يطلق عليه "الأخبار مدفوعة الأجر". وهذه الممارسة كما يوحي اسمها عبارة عن نشر أو إذاعة أخبار مدفوعة الأجر من قبل شخص أو مجموعة، بهدف الإعلان والترويج وتحسين السمعة وخصوصاً أثناء المواسم الانتخابية. ليس هناك شك في أن حرية الصحافة في ديمقراطية صحية مثل الديمقراطية الهندية تعتبر ميزة غاية في الأهمية. ومن المعروف أن وسائل الإعلام في الهند كما في غيرها من البلدان تقوم بتنظيم أمورها بنفسها، وهو أمر ليس من المحتمل تغييره، وخصوصاً بعد أن أكدت الحكومة الهندية في أكثر من مناسبة أن التنظيم الذاتي لوسائل الإعلام يمثل الطريقة "الأكثر قبولاً"ومرغوبية. وهناك هيئتان تضطلعان بالتنظيم الذاتي في الهند: الأولى هي" هيئة معايير محطات الإذاعة الخبرية" (NBSA) أما الثانية فهي"مجلس شكاوى المحتوى الإذاعي"( BCCC) .وعلى الرغم من الجهد الملحوظ الذي تقوم به هاتان الهيئتان، فإن ذلك لم يحل دون تسرب بعض الممارسات غير الأخلاقية لوسائل الإعلام الهندية، وهي ممارسات تحتاج إلى التعامل معها بواسطة وسائل الإعلام ذاتها. ويرجع السبب في التوسع السريع لوسائل الإعلام في الهند إلى الوتيرة السريعة التي نما بها اقتصادها خلال العقد الأخير، وهو ما كان سبباً في ارتفاع مداخيل قطاعات ذات شأن من المجتمع الهندي، كما كان سبباً في إقدام الشركات على تخصيص ميزانيات كبيرة للإعلان عن منتجاتها. ويضاف لهذا انخفاض مستويات الأمية الذي أدى إلى ارتفاع أعداد قراء الصحف، ومستمعي الإذاعات، ومشاهدي القنوات التلفزيونية. وتعتبر الهند هي أكبر سوق للصحف المطبوعة في العالم؛ حيث يباع فيها ما يقرب من 107 ملايين نسخة من الصحف المختلفة يومياً بحسب تقرير الاتحاد العالمي للصحف الصادر عام 2009. ويبلغ عدد الصحف المسجلة رسمياً في الهند 82,222 صحيفة، تشمل صحفاً يومية قومية تصدر باللغات الإنجليزية والهندية بالإضافة إلى 21 لغة إقليمية مثل التاميل والمالايالام. وعلى الرغم من أن عدد الصحف الصادرة باللغة الإنجليزية لا يزيد عن 15 في المئة من وسائل الإعلام المطبوعة وتأتي في المرتبة الثانية بعد الصحف الصادرة باللغة القومية(الهندية) فإنها تجتذب ما يقرب من نصف العوائد الإعلانية نظراً للمستوى الاقتصادي المرتفع لقرائها. ومع زيادة حدة المنافسة يزداد عدد الممارسات السيئة في عالم الإعلام. فالوسائل الإعلامية المختلفة تسعى بكل ما تملك من قوة عن مصادر جديدة للدخل، تستطيع أن تواجه بها نفقاتها المتزايدة. والصحف الصادرة باللغة الإنجليزية التي وصلت طاقة توزيعها إلى حدها الأقصى في عواصم الولايات والمدن الكبيرة مثل دلهي ومومباي وتشيناي تلجأ في الوقت الراهن للبحث عن أسواق جديدة في المدن المتوسطة الحجم التي تشهد رفاهية متزايدة، ويمتلك سكانها قدرات متزايده على الإنفاق، ويوجد بها أعداد متزايدة على الدوام من المعلنين. على ضوء ذلك كله يمكن القول إن التحدي الكبير الذي يواجه وسائل الإعلام الهندية بمختلف أنواعها هو ذلك المتعلق بتجنب الوقوع في فخ كسب أموال سهلة من خلال ممارسات ووسائل غير قانونية وغير أخلاقية. د.ذكر الرحمن مدير مركز الدراسات الإسلامية- نيودلهي