العروبة لغة، ولذلك يتوحد العرب إذا ما تخاطبوا باللغة العربية الفصحى. يحرصون عليها في مدارسهم وجامعاتهم وإعلامهم وحياتهم اليومية. ولا يفرط أحد في لغته الفصحى كما يفرط العرب أحياناً لحساب اللهجات المحلية فيتمزق الوطن الكبير. «الأرض بتتكلم عربي»، بالدارجة وليس بالفصحى. وقد ساعدت مصر وسوريا بعد استقلال الجزائر على التعريب فيها بعد أن قضى الاستعمار الفرنسي على هوية الوطن لغة وثقافة. وما زالت الدعوات تظهر هنا وهناك للحديث والكتابة والتدريس والتأليف بالعامية، لغة التخاطب وليس بالفصحى التي لا يستعملها أحد في الحياة اليومية إلا فيما ندر، ويكون موضع فكاهة. وتقوم مجامع اللغة العربية واتحاد المجامع للحفاظ على اللغة القومية والحرص على نقائها من الدخيل والغريب. واللغة شعر. والشعر خيال. وطالما بقي الشعر العربي القديم أو الحديث تبقى العروبة، ويظل الوعي العربي يقظاً. يحمل كل عربي شعر امرئ القيس وعنترة في داخله، وكذلك شعر المتنبي وأبي العلاء. وينفعل بأشعار شوقي وحافظ والسياب ومحمود درويش ونزار قباني وسميح القاسم وتوفيق زياد. والعربي شاعر بطبعه، صاحب خيال وذوق. الشعر ديوان العرب، تاريخهم وعلمهم وفنهم. يعلقونه على أستار الكعبة، مقدس على مقدس. ينقلونه شفاهاً، جيلاً وراء جيل. ولم يعرف التدوين إلا مؤخراً. والأذن تعشق قبل العين أحياناً. الشعر من الشعور، من الإحساس والجماعة، من الوجدان والألفة. الشعر هو الرابط بين اللغة والثقافة. هو الذي يمد العرب بتصوراتهم للعالم وفي نفس الوقت ينشأ منها. الشعر هو الذي يثير العرب ويحشدهم ويطلق طاقاتهم. هو الذي يجعلهم يصفقون للخطيب وللمغنى، ويهللون للمنشد، ويقولون «الله... الله». ولا فرق بين العرب على اختلاف أديانهم فقد وحدت ثقافتهم العروبة. وحملوا جميعاً لواء العروبة لغة وشعراً ونظاماً. كان نصارى الشام عرباً لغة وثقافة، ونصارى ديناً. وكان ولاؤهم للعروبة التي حملت الدين الجديد الذي أتى لتأكيد كون المسيح، عليه السلام، كلمة الله وروح منه، وأمه صدّيقة خير نساء العالمين. ونقلوا الثقافة اليونانية، التي كانوا نقلوها من قبل إلى السريانية لخدمة المسيحية، إلى العربية. تجمعهم مع المسلمين العروبة. فكانوا نصارى ديناً، عرب لغة. والسريانية فرع من اللغات السامية كالعربية. وقام نصارى الشام بهذا الدور مرة ثانية في العصر الحديث منذ القرن التاسع عشر وهم ينقلون الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية لتحديث العروبة التي جمعت بينهم وبين المسلمين. فعرف العرب الفلسفات والعلوم الغربية بفضل فرح أنطون ويعقوب صروف ونقولا حداد وشبلي شميل. وحملوا لواء الأدب العربي بفضل عائلات زيدان وتقلا. وكانت إسلاميات جورجي زيدان سابقة على إسلاميات طه حسين والعقاد. وكتب نظمي لوقا «محمد الرسالة والرسول». وعلى أرض الواقع العروبة محيط أول يجمع العرب في الوطن العربي. يحيط بها محيط إسلامي ثانٍ في دول الجوار. ووراء هذا محيط ثالث في العالم الإسلامي، في جنوب شرق ووسط آسيا، في أفغانستان وباكستان التي تمتلك السلاح النووي، والملايو، نموذج النهضة الصناعية والتنمية الحديثة، وإندونيسيا أكبر بلد إسلامي، والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا التي بها بقايا التنمية الزراعية والصناعية منذ أن كانت دويلات ضمن الاتحاد السوفييتي. وهناك أفريقيا جنوب الصحراء، نيجيريا أكبر بلد إسلامي أفريقي، وتشاد ومالي وغانا وغينيا والسنغال وبقية دول غرب أفريقيا ووسطها وشرقها وجنوبها. وكل ذلك رصيد للعروبة فيما سمي من قبل «منظمة الوحدة الأفريقية» والآن «الاتحاد الأفريقي»، أو العالم الأفريقي الآسيوي أو دول عدم الانحياز. وهناك الإسلام الأوروبي الذي بلغ أربعة عشر مليوناً من الأوروبيين والمهاجرين يمثل رصيداً آخر للعروبة مع المسلمين في أميركا. فالعروبة ليست جزيرة منعزلة يحوطها سياج حديدي بل هي محيط ممتد عبر عالم إسلامي آخر في دول الجوار. والعروبة والدين كلاهما عنصرا توحيد للأمة العربية الإسلامية ضد مخاطر التفتيت وخطط التجزئة التي تحاك لها الآن إلى كيانات عرقية أو طائفية أو مذهبية حتى تصبح إسرائيل هي أكبر وأقوى دولة في قلب الوطن العربي، حتى لا يوجد وطن عربي يجمع شتات العرب بل دويلات عرقية في العراق، عربية وكردية وتركمانية، وفي المغرب العربي عربية وأمازيغية، وفي السودان عربية وأفريقية. ودويلات طائفية سنية وشيعية في العراق، ومسلمون وأقباط في مصر، ومسلمون ومسيحيون في السودان. وتنتهي قصة «جامعة الدول العربية» على رغم ضعفها. ويتحول العرب إلى دويلات تتجاذبها دول وأحلاف أكبر شرقاً وغرباً، أطراف لقلب آخر شرقاً أو غرباً دون وسطه ومركزه مصر أو الشام. العروبة والدين كلاهما ضرورة للمنطقة، الوطن العربي والعالم الإسلامي. والعروبة ليست عرقاً بل هي لغة وثقافة. فالأكراد والتركمان والأمازيغ والقبائل الأفريقية عرب طالما تعربوا وتحدثوا العربية. فالعربية عنصر توحيد أكثر من اللهجات المحلية. وقد كان صلاح الدين وأحمد شوقي كرديين. وناصرا الإسلام والعروبة، أولهما قاهر الصليبيين والثاني أمير الشعراء. وكان طارق بن زياد أمازيغياً فاتح الأندلس. وكان عثمان دنقه فاتح أفريقيا السوداء أفريقيا. وفي أواسط آسيا العروبة، لغة وثقافة، شرف وكرامة. يُتبرك بالعربي لأنه عربي يتحدث العربية، ويبلغ رسالة الإسلام. العروبة والدين ليسا نقيضين بل هما دائرتان متداخلتان، كل منهما ركيزة للأخرى. العروبة وعاء للدين. والدين عصب للعروبة. العروبة لغة الدين، والدين ثقافة العرب. لقد قامت الحضارة العربية بفضل الدين الذي وحد العرب وجعلهم شعباً فاتحاً ممتداً إلى الشمال والغرب لوراثة الروم، وإلى الشرق لوراثة الفرس، وإلى الجنوب إلى الحبشة. كان الدين عنصر توحيد للقبائل العربية ومحولاً إياها إلى دولة مركزية. ثم حولت الفتح إلى حضارة بنقل ثقافات الشعوب المجاورة إلى العربية والتفاعل معها، والتأليف في موضوعاتها، وتجاوزها، وإبداع حضارة. أثـْرت اللغة العربية وحولتها من لغة شعر ودين فقط إلى لغة علوم رياضية وطبيعية وإنسانية. يُقال الحضارة العربية والحضارة الإسلامية على التبادل. فالعروبة لغة وثقافة. والدين ثقافة وحضارة. أصبح الدين منبعاً للثقافة العربية، وأصبحت العروبة حاملة للثقافة الإسلامية. الإسلام أيديولوجيا العرب. والعروبة ثقافة المسلمين. والصراع بينهما إنما هو صراع على السلطة بين تيارين سياسيين، القوميين والإسلاميين، على رغم اتفاقهما في الأهداف وحتى على فرض اختلافهما في الوسائل. فهدف كليهما نوع من الوحدة الإقليمية، عربية أو إسلامية. ولما كانت القومية والإسلام دائرتين متداخلتين أوسط وأكبر بعد دائرة الوطن التي يشترك فيها كلاهما، فالقومية الدائرة الأوسط، خطوة نحو الإسلام الدائرة الأوسع. والوحدة العربية خطوة نحو الوحدة الإسلامية. هذا مقال تأملي صرف. يقوم على تحليل الخبرات الذاتية من وطني قومي عربي إسلامي. عاش ليوحد بين الدين والثورة. وأسس «اليسار الإسلامي». وظل طيلة حياته يبين عناصر الوحدة بين الدين والثورة. هو تعلم من تجارب سابقة جمعت بين الإسلام والثورة، بين الدين والعروبة، وليس مجرد توفيق سياسي بين تيارين سياسيين من أجل غاية سياسية.