لا أحد يعرف عدد من قتلوا في سوريا تحت الأنقاض وهم لابد بعشرات الآلاف، ولا توجد وسائل تقنية عند الناس البسطاء المفجوعين لإزالة تلال الركام الإسمنتي، والبحث عن جثث أو عن أحياء حين يأتيهم القصف العشوائي الذي بات الدليل الأبرز على الوحدة الوطنية بين السوريين، فهو لا يميز بين الأعراق والطوائف ولا حتى بين الانتماءات السياسية، وبراميل الموت لا تملك أهدافاً محددة، وهي ترى أن الجميع صاروا أعداء، وقد تم تدمير نحو خمسين في المئة من البنى السورية، والتدمير في تصاعد وازدياد، ولم ينجُ منه إلى الآن سوى بعض المناطق التي لم تشهد أي احتجاج أو استنكار لما يحدث، ربما خوفاً من مصير مماثل. أما الذين قضوا وهم قيد الاعتقال فلا يعلم عددهم إلا الله، وكل الأرقام التي تعلن عن عدد المفقودين هي تقريبية، وأما عدد المعتقلين الأحياء والمطلوبين للاعتقال، فقد وصل إلى ما يستحق التسجيل في موسوعة الأرقام القياسية، وأما الذين تشردوا في الداخل والخارج فقد تجاوز عددهم الملايين، وقد جاء فصل الشتاء مع برده القارس ليزيد معاناة السوريين، وأوشكت البلاد أن تدخل في المجاعة مع حرمانها من المواد الغذائية، ولأول مرة منذ نحو عشرة آلاف عام (هي التاريخ الذي نعرفه لسوريا) يعيش السوريون هذه الحالة المريعة، فقد سبق أن تعرضت سوريا لمحن كثيرة وكبيرة، وقصفت دمشق ودمرت حلب ومدن سورية عدة مرات في تاريخها، ولكن ذلك كله كان يتم عبر عدوان خارجي، أما أن تدمر سوريا بيد من يفترض أنهم أبناؤها فهذا يحدث لأول مرة في التاريخ. وإذا كان الهدف من كل هذا العنف هو تحقيق الانتصار على الثوار، وقمع الانتفاضة، فهل تدمير المدن يزيد حجم المؤيدين؟ أيؤدي الإسراف في استخدام العنف إلى تمتين العروة الاجتماعية لمقاومة ما يسمى بالمؤامرة الكونية أم أن العنف هو الذي يستدعي العنف المضاد؟ أطرح هذه الأسئلة التي لا تبحث عن إجابة، إزاء حالة من جنون العنف الذي لم يبق له هدف سوى التدمير أو السعي إلى الإبادة الجماعية التي أطلق عليها اسم التطهير، وهو يطلق على التطهير العرقي أو الديني أو المذهبي، فإن أطلق على من صاروا إرهابيين (ولا أنكر توغل بعضهم في المشهد السوري المضطرب والمرتبك) فإن الغالبية المطلقة في المعارضة المسلحة اليوم هم ضباط وجنود الجيش العربي السوري الذين رفضوا ما سمي الحل الأمني العسكري، ولم يتمكنوا من النصح أو التعبير عن استنكارهم، فلم يجدوا وسيلة غير الانضمام إلى شعبهم للدفاع عنه، فكيف يصير هؤلاء إرهابيين وكانوا قبل يوم من الانشقاق حماة الديار؟ أما كانت كل هذه الانشقاقات جديرة بوقفة تأمل ومراجعة وإبداع لحلول تتم فيها تضحيات وتنازلات من أجل الحفاظ على وحدة الوطن وتجنيبه هذا الدمار؟ وكم كان ضرورياً أن يسارع من بيده الأمر للحفاظ على وحدة الجيش السوري، فقد بات انفراط عقده أخطر ما في المشهد المفجع، الذي بتنا نرى فيه ضابطاً سورياً يوجه مدفعيته أو صواريخه أو براميل المتفجرات إلى حي من أحياء سوريا حيث يسكن أهله الذين يفترض أنه المدافع عنهم حتى وإن كان أعداؤه من رفاق السلاح قد لجأوا إلى هذا الحي أو ذاك، فالحوار يسبق، والعداوة المفترضة هي نتاج العنف الذي قوبل به المتظاهرون الذين أصروا في البدء على سلمية مظاهراتهم. ويبدو أن تلك السلمية كانت مخيفة، وهذا ما دفع إلى تحويلها من ثورة بيضاء إلى احتراب داخلي، وربما كان أمل الخطة أن يقود الاحتراب إلى مفاوضات وحوار تنتهي بهما الحروب عادة، على أمل أن يكون التقسيم هو المخرج. أتوجس من ذلك، لأن الدعوة إلى التقسيم لم تعد مجرد شائعات أو تكهنات، فقد بات الحديث الهامس حولها يعلو بالتدريج، وربما يصير موضوع حوار سياسي قريباً، وقد بدأ الداعون إليه يرتبون الحجج والذرائع، وينشرون الخوف من الانتقام لتبرير الخطة، وتقسيم سوريا كان مشروعاً فرنسياً أيام انتداب فرنسا على سوريا مطلع القرن العشرين، وقد قاومه السوريون ورفضوه، ووقف الشرفاء من العلويين ضده، وأصروا على العودة إلى اللحمة السورية، وكان هدف التقسيم يومذاك، إضعاف سوريا لتمكين إسرائيل من إعلان دولتها. ومع قناعتنا بأن أشراف العلويين سيرفضون اليوم ما رفضه آباؤهم، إلا أننا نخشى أن نجد من يشجع على ذلك ليدخل سوريا في حروب لا تنتهي، ولتصير قضية فلسطين والجولان هامشية وثانوية في الأولويات السورية. وبعض المحللين يرون أن خطة تدمير سوريا وإنهاكها هي مقدمة ضرورية لإعلان خطة التقسيم، فلابد من أن يعود المشردون إلى معاناة تشغلهم عن وحدة التراب وعن كل القضايا الكبرى، حيث سيكون الهم الأكبر هو تأمين المخيمات والمعسكرات لملايين ممن لن يجدوا بيوتاً يسكنونها، ولن يجدوا أدنى مستلزمات العيش الكريم، فضلاً عن حالة الاضطراب والفوضى التي ستحل بالمجتمع في صراعات السلطة قبل الاستقرار، وعادة تأكل الثورات أبناءها، وما يحدث في مصر اليوم سيحدث في سوريا غداً، وسينشغل الناس بالدستور وبالعلمانية وبالإسلام، وسينشغل السوريون بإعادة الإعمار والبحث عن المنح والمعونات والقروض الدولية. وربما تثير فكرة التقسيم شهية بعض الأقليات، ولا ندري من يفكر كذلك بأن تكون له حصة خاصة من سوريا الممزقة، وهي عماد من ركائز العروبة المتبقية، فإن سقط سقطت الأمة ودخلت مرة أخرى في عصر الأقليات المتناحرة المتحاربة ولعل أخطر ما يمكن أن يقود إلى استمرار الدمار هو إجهاض التجارب الديمقراطية ونشر أفكار متطرفة تتيح لأعداء الأمة أن يجنوا وحدهم ثمار «الربيع العربي». إنني أدعو الله ألا يحدث شيء من هذه الاحتمالات كلها، وأرجو من السوريين جميعاً أن يكون هدفهم الأول هو الحفاظ على وحدة التراب السوري وعلى بنية الدولة، وأن يرفضوا كل الدعوات المريبة أيضاً إلى خطط المحاصصة السياسية التي وقع لبنان والعراق في معتركها، وأن يجمع السوريون على مبدأ المواطنة، وإلا فإن سوريا مهددة بالخروج من التاريخ.