إذا نظرنا نظرة مقارنة لسلوك صناع القرار السياسي في عديد من البلاد حين يواجهون أزمة طارئة أو مشكلة مستعصية، سواء كانت تتعلق بالسياسة الخارجية أو بالسياسة الداخلية، فسرعان ما نكتشف أن بعضهم يخطئون في قراءة الواقع وبالتالي يفشلون في مواجهة الأزمة أو المشكلة. بل أحياناً تؤدي قراراتهم الساعية لحل الأزمة إلى مضاعفتها وتضخيم حجمها، بحيث تبدو كما لو كانت مستعصية على الحل. النموذج الماثل في الأذهان هذه الأيام والذي تعبر عنه الملاحظات السابقة هو بلا أدنى شك الإعلان الدستوري الذي أصدره رئيس الجمهورية الدكتور مرسي في 21 نوفمبر 2012 وفاجأ به المجتمع السياسي والرأي العام بكافة توجهاته. وذلك لأنه نزع إلى نسف السلطة القضائية نسفاً، لأنه قرر في إحدى مواد الإعلان تحصين قراراته في الماضي والحاضر والمستقبل. كما قرر تحصين كل من مجلس الشورى والجمعية التأسيسية من الحل. وقد أدى هذا الإعلان بالإضافة إلى تحديد موعد للاستفتاء إلى انفجار غضب شعبي عارم عبرت عنه المظاهرات الحاشدة في كل من ميدان التحرير ومحيط قصر الاتحادية وعديد من الميادين الأخرى في مختلف أنحاء القطر. وتشكلت «جبهة للإنقاذ الوطني» من أبرز الرموز الليبرالية واليسارية والثورية مطالبةً بإلغاء الإعلان الدستوري، بالإضافة إلى ضرورة تأجيل موعد الاستفتاء على مسودة الدستور الذي لم يتم التوافق عليه بعد انسحاب بعض الأعضاء الليبراليين والمستقلين، من اللجنة احتجاجاً على رفضها التعديلات التي اقترحوها على بعض المواد، ليصدر الدستور معبراً عن مصالح الشعب ككل وليس ترجمةً لتوجهات دينية أو سياسية مختلف بشأنها ويتبناها «الإخوان» والسلفيون الذين تشكلت منهم أغلبية أعضاء اللجنة. والواقع أن الرئيس مرسي حين أصدر هذا الإعلان الدستوري الباطل استباقاً منه لإصدار المحكمة الدستورية العليا حكمها في قضية بطلان الجمعية التأسيسية. والحقيقة أن مرسي -باعتباره الصانع الأول للقرار السياسي في مصر الآن في غيبة البرلمان باعتباره رئيس الجمهورية- في إدراكه الذي ترتب عليه عدم تنبؤه بردود الفعل الشعبية العنيفة لقراراته، يشترك في هذه الظاهرة مع عديد من صناع القرار السياسي في مصر أو في العالم في حالات شهيرة أدت إلى نتائج كارثية لمتخذي القرارات الخاطئة. ومما لا شك فيه أن بعض المنظرين في علم النفس السياسي، وأبرزهم عالم النفس الأميركى «روبرت جيرفيس» في كتابه «الإدراك والإدراك الخاطئ في السياسة الدولية»، ألقو الضوء على ظاهرة الإدراك الخاطئ لصناع القرار وأسبابها والنتائج التي تترب عليها. وأياً ما كان الأمر -حتى تكون دراستنا موضوعية لحالة الدكتور مرسي في مجال إدراكه الخاطئ للواقع السياسي المصري مما دفعه بدون استشارة عاقلة وبغير تردد إلى الاندفاع لإصدار الإعلان الدستوري، والذي ترتبت عليه مصادمات دامية وقع فيها قتلى ومصابون من فريق المعارضين وفريق المؤيدين على السواء- علينا أن نتأمل في السوابق التاريخية للإدراك الخاطئ لبعض صناع القرار في مصر، وما أدى إليه هذا الإدراك من نتائج سلبية بل ونتائج كارثية في بعضها على الأقل. ويرد على الذهن أولاً الإدراك الخاطئ للملك «فاروق» وللنخب السياسية الليبرالية قبل عام 1952 التي كانت تساهم في تشكيل الوزارات المختلفة أن الوضع الاجتماعي في مصر مستتب رغم الفجوة الطبقية الكبرى بين من يملكون ومن لا يملكون. وقد أدى هذا الإدراك الخاطئ للملك وللنخبة السياسية الليبرالية معاً إلى قيام انقلاب 23 يوليو 1952 والذي تحول في لمح البصر إلى ثورة جماهيرية شاملة، سرعان ما أطاحت بالحكم الملكي والنظام الليبرالي في نفس الوقت! وجاءت ثورة 23 يوليو بقيادة الضباط الأحرار وعلى رأسهم «جمال عبد الناصر» الذي تحول -خصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر- إلى زعيم مصري وعربي مرموق، وكان لديهم مشروع قومي متكامل أدى إلى الارتفاع بنوعية الحياة لملايين المصريين، لكن «عبد الناصر» -في مجال السياسة العربية- أخطأ خطأ جسيماً حين استدرج دعماً لثورة اليمن لكي يخوض الجيش المصري حرب عصابات غير مؤهل لها أضعفته بشدة، ولم يكتف بذلك بل إنه -نتيجة إدراكه الخاطئ للوضع الإسرائيلي وللنظام الدولي- اندفع بغير أدنى استعداد للحرب مع إسرائيل، وارتكب أخطاء جسيمة في القرارات السياسية الاستراتيجية التي أصدرها قبل الحرب، مما أدى إلى هزيمة يونيو 1967، واضطراره – تحملاً للمسؤولية- إلى إعلانه التنحي عن منصبه. وحين انتهى المسار الثوري بوفاة «عبد الناصر» وتولى الرئيس «السادات» استطاع بعبقرية فذة التخطيط الاستراتيجي الدقيق لمواجهة إسرائيل عسكرياً لتحرير الأرض وأنجزت القوات المسلحة المصرية مدعومة بالشعب كله الانتصار التاريخي في حرب أكتوبر 1973، لكن «السادات» عقب اتفاق «كامب ديفيد» ووعوده السخية للشعب بالرخاء العميم، ومن خلال إدراكه الخاطئ للواقع الاجتماعي المصري لم يصب في اتخاذ قرارات داخلية وسلبية، مما أدى إلى ثورة جماهيرية ضده، وبعد أن هدأت الأحوال تم اغتياله بواسطة إحدى الجماعات الإرهابية الإسلامية. ورغم أن الرئيس السابق «مبارك» حين تولى الحكم لابد أنه تأمل ملياً الخبرات المتراكمة للقادة المصريين وما أدت إليه إدراكاتهم الخاطئة من سقوط الملك «فاروق»، إلى هزيمة «عبد الناصر» إلى اغتيال «السادات»، إلا أنه لم يتعظ من خبرة التاريخ وغرق في الفساد المعمم، ثم أسرف في إدراكه الخاطئ للواقع السياسي وظن أنه يمكن أن يورث ابنه ليصبح رئيساً للجمهورية. وفوجئ الرجل بقيام ثورة 25 يناير، ولم يجد سبيلاً إلا التنحي وتسليم الحكم للمجلس الأعلى للقوات المسلحة. لماذا لا يطالع رئيس الجمهورية هذه اللوحة التاريخية الحافلة بالنتائج الكارثية التي أدى إليها إدراك القادة المصريين الخاطئ، وعجزهم عن قراءة الواقع؟ عليه معرفة أن الإعلان الدستوري الجديد الذي نسخ الإعلان الكارثي الأول أبقى على النتائج التي ترتبت عليه، كما أن الإصرار على القيام بالاستفتاء على الدستور هو قراءة خاطئة للواقع السياسي، لأن الشعب لن يقبل بأي حال من الأحوال دستوراً مفروضاً عليه بالقوة وبمجرد الاستناد إلى الصندوق، وهو مجرد آلية من الآليات السياسية وبدون احترام لقيم الديمقراطية.