لم يتوصل العلماء لاختراع جهاز يقيس مقدار تأثير شخصية ما على توجهات الناس واختياراتهم، لكن القدر المؤكد منه هنا هو أن روائياً مرموقاً كعلاء الأسواني يترك بكتاباته وآرائه أثراً ما على الإنسان المصري، وعلى اختياراته وتوجهاته. والأسواني نموذج لمثقفين وكتّاب يضعون عيناً على الأدب وأخرى على السياسة، وفي لحظة ما لا يميزون بينهما، وينظرون للأوطان كما ينظرون للروايات، إذ يمكن للروائي، بقليل من الجهد، أن يعيد صياغة الرواية، ويشقلبها، ويستبدل شخوصها، ويلغي أحداثاً ويضيف إليها، ويمكنه أن يغيّر الخاتمة كما يشاء، و«فجأة». عُرف الأسواني باعتباره أحد أشرس المناوئين لنظام مبارك، وكان يوجه إليه انتقاداً لاذعاً في أيام عزه، بل نشر كتاباً قبل ثورة 25 يناير بعنوان «لماذا لا يثور المصريون؟» صبّ فيه غضبه على أبناء وطنه ووصفهم بالخانعين. وكان من الطبيعي أن يكون حاضراً في ميدان التحرير أيام الثورة كأحد رموزها. وبعد هجومه الكاسح على الفريق أحمد شفيق، في الفترة القصيرة التي تولى فيها الأخير رئاسة الوزراء أوائل سنة 2011، خرج شفيق من الاستديو الذي جمعهما في لقاء تلفزيوني مباشر، ليقدّم استقالته. وقتها كتب سمير عطا الله مقالة قال فيها إنه شعر بالخوف بعد استقالة شفيق بسبب الأسواني، «فرسم الصورة الدرامية لسطح عمارة يعقوبيان لا علاقة له بمعرفة ما يحمي أسس الأهرامات وجسور النيل»، مضيفاً أن قلقه لم ينبع من كون قانون الطوارئ أفضل، وسجون القمع أفضل، بل «لأن الذي أؤتمن على سلامة مصر وأمن المصريين، هو الضابط لا الكاتب المسرحي». وحين لم يجد المصريون إلا أحد اثنين في جولة الإعادة لانتخاب رئيس الجمهورية، الدكتور مرسي والفريق شفيق، دعا الأسواني إلى مقاطعة الانتخابات، فهو كما أعلن ضد عودة نظام مبارك بأي شكل من الأشكال، وفي الوقت نفسه، لا يرغب في ذهاب صوته لمرشح «الإخوان». ولم يكد الرئيس الجديد يمضي مئة يوم الأولى من حكمه، وإذا بالأسواني يعبّر عن خيبة أمله، وتخوّفه على مصير مصر. ويقف اليوم الأسواني كالشوكة في بلعوم النظام الجديد، فهو يطالبه بإلغاء إعلانه الدستوري، السابق واللاحق، ويقول «لا» للاستفتاء على الدستور، ويطالب بإعادة تشكيل اللجنة التأسيسية، وبجملة واحدة يقول: «الاستفتاء باطل على دستور باطل أصدرته لجنة باطلة»، ويطالب أيضاً رئيس الجمهورية بالعودة عن قراراته، ويصف الدعوة إلى الحوار بأنها مثل دعوة عمر سليمان للحوار في آخر أيام مبارك. مثل هذه المواقف السريعة والحادة خطرة، ورفض مبارك، ورفض شفيق، ورفض النظام الجديد، وما بينهم رفض للمجلس العسكري، ورفض الانتخابات، ورفض الاستفتاءات، ورفض الحوار، رفضاً لا رجوع فيه ومقاطعته نهائياً كأنه طلاق بينونة كبرى، ومن شخصية واحدة، وفي غضون سنتين لا أكثر، لن تكون أكلافه قليلة، خصوصاً إن كانت هذه الشخصية مؤثرة في الشارع، وفي بلد مثل مصر، المجال السياسي فيه مفتوح للأخذ والعطاء. ومهما كانت دوافع الأسواني وحبه لوطنه وحلمه ببلد ديمقراطي، فإنه وغيره ممن لهم كلمة مسموعة في الشأن العام ولا يستخدمونها إلا في الرفض القاطع، ربما يعتبرون الأوطان روايات يغيرّون فيها كما يحلو لهم، لكنهم يمكن أن يضيّعوا بلدانهم بخفّة لا تُحتمل كما هو اسم رواية ميلان كونديرا.