بعد أن سقط نظام «مبارك» ساد اعتقاد بأن ثورة مصر انتهت بنجاح منقطع النظير والكل -في عالمنا العربي- كان يرى أن هذه الثورة اختلفت عن غيرها بأنها بدأت وانتهت سلمية. فرح المصريون بنصرهم الكبير لإسقاط آخر فراعين مصر، فبعد «مبارك» لن يأتي فرعون بل ستكون دولة مدنية ديمقراطية، رئيس يأتي به الشعب ويرحل بانتهاء مدة رئاسته أو يخلعه الشعب، فلن يبقى رئيساً لأكثر من ثلاثة عقود ولن يفكر في توريث الحكم لابنه من بعده! هذا ما اعتقده الجميع لكن الأشهر الخمسة الأولى لأول رئيس مدني في تاريخ مصر كشفت غير ذلك. عمل المصريون بمختلف تياراتهم السياسية وتوجهاتهم الفكرية وخلفياتهم الدينية والاجتماعية من أجل وطن جديد يضم الجميع ويتسع للكل وظل هذا الحلم قائماً، وكانت الأيام والأشهر الماضية وكأنها فصول قصة يشارك الجميع في كتابتها لكن القصة الجميلة لم تكتمل عندما اعتقدت مجموعة لأنها تمتلك الأغلبية في الشارع ولأنها أصبحت تمتلك القرار أنها تستطيع ولها الحق في أن تفرض الأمر الواقع على الجميع. ولأنها مجموعة تحظى بتعاطف البعض، فقد شاركت في الانتخابات التشريعية وحصلت على أغلبية الأصوات ثم شاركت في الانتخابات الرئاسية -وبدون الدخول في تفاصيل هذه الانتخابات- ففاز مرشحها برئاسة جمهورية مصر العربية، وهذا ما جعلها تعتقد أنها أصبحت صاحبة القرار الأول والأخير، وفي غفلة من الزمن كاد الرئيس الجديد المنتخب من الشعب يتحول إلى رئيس مطلق الصلاحيات، وذلك بالاختصاصات التي منحها لنفسه من خلال الإعلان الدستوري! وفي هذه اللحظة كان لابد أن يستيقظ الثوار الحقيقيون ومن ضحوا بكل شيء من أجل الثورة وأن يتنبهوا إلى أن ثورتهم اختطفت، فباسم الديمقراطية والانتخابات والأغلبية تجيز السلطة لنفسها كل شيء، وترى أن من حقها اتخاذ أي قرار نيابة عن الأغلبية ودون الرجوع إليها أو إلى الأقلية... أما الإسلام والدين والشرع فلحماية القرارات وتبرير الأخطاء ومواصلة الاستئثار بالقرارات وبالحكم. ما حدث في ديسمبر الجاري وما ستشهده الأيام المقبلة يؤكد أن ثورة مصر لم تنته ولم تكن بالصورة المثالية التي كنا نراها، وهذا لا ينتقص من الثورة شيئاً فمن يقرأ تاريخ الثورات في العالم على مر العصور يرى أن أعظم الثورات لم تكن مثالية أبداً وإن بدت في مراحلها وسنواتها الأولى سلمية إلا أنه سرعان ما يتلطخ وجهها بدماء الأبرياء ولم تكتمل حتى تأكل بعض أبنائها، لا نقول ذلك تشاؤماً ولا انتقاصاً ولكننا يجب أن نقرأ التاريخ جيداً حتى نفهم الواقع وحتى نستطيع أن نستشرف المستقبل. ثورة مصر أمام مفترق طرق وبحاجة إلى جميع العقلاء هناك، فلا يجب أن يكون الاستئثار بالحكم وبالسلطة هو هدف الأحزاب السياسية وخصوصاً الحزب الحاكم وهم «الإخوان» الذين أصبحوا على رأس الحكم في مصر اليوم. فما تحتاجه مصر اليوم هو ثقافة حكم جديدة وما تحتاجه هو التخلص من العقليات القديمة الرجعية منها والفاسدة، وما تحتاجه مصر هو بناء وطن على أسس سليمة وأهم ما تحتاجه هو تحصينها من الأعداء المتربصين بها من كل جانب. ففي خضم انشغال الأحزاب السياسية وشباب الثورة يجب أن لا ينسوا أن المتربصين بمصر يبذلون كل ما بوسعهم هذه الأيام من أجل أضعاف مصر المستقبل، ومن أجل عدم السماح لوجود مصر قوية وذات تأثير حقيقي في المنطقة. أما أخطر ما في المشهد المصري هذه الأيام وما يثير قلق جميع المراقبين في الخارج فهو ذلك الانقسام الواضح جداً الذي يكاد يشق المجتمع المصري والشارع السياسي إلى قسمين، فلم نر مصر بهذا الشكل من الانقسام الحاد على قضية ما حتى في عهد النظام السابق كان هناك اختلاف يمكن استيعابه واحتواؤه والتعامل معه ومن ثم التوصل إلى حلول ترضي جميع الأطراف. تغير الوضع اليوم فأصبح الجميع أقوياء ولهم صوت مسموع وكلمة مؤثرة وقاعدة شعبية تعبر عنهم وبالتالي فإن تمسك كل طرف برأيه وموقفه وعدم رغبته بالتراجع يجعل الأمور تتعقد بشكل أكبر. مصر لجميع المصريين والثورة جاءت لتؤكد ذلك وليس أن تأتي مجموعة تلعب دور النظام السابق وتحبط آمال الشباب وجميع المصريين في التغيير وفي إيجاد مصر جديدة تختلف عن القديمة، مصر التي تلبي طموحات الشباب وتحقق أحلامهم، مصر التي تلبي رغبات السياسيين وتحقق التغيير السياسي المنشود. لذا فإن العناد السياسي الذي تمارسه من تدعي أنها تمثل الأغلبية يجب أن لا يستمر وأن يكون هناك توافق على الدستور الجديد وتشاور في أي قرار مصيري يخص مستقبل مصر وأجيالها. فمصر بحاجة إلى لغة الحوار والتوافق وليس التلويح بالأغلبية ولا إلى الانقسام فهي لجميع المصريين ومن يعتقد غير ذلك سيخسر خصوصاً في وقت التغيير. تتغير الأمور بشكل ملفت في منطقة الشرق الأوسط فما يحدث في مصر له تأثير مباشر على الدول العربية من حولها وعدم الاستقرار الحالي فيها يجعل من ارتباك الأوضاع السياسية في المنطقة واضحاً. أما ما يمكن اعتباره بمثابة المشهد الأخير للوضع القديم في المنطقة فهو انتهاء الأزمة في سوريا بتغيير الوضع القائم فيها، الأمر الذي سيعتبر بداية قصة جديدة بشخصيات جديدة وأحداث مختلفة وأبطال جدد في منطقة شهدت جموداً سياسياً لقرن من الزمان.