«الصمتُ لغةٌ أيضاً، وليس الجميع يفهمونها بالتأكيد، إلاّ أن الصمت كلام قوي ينبغي أن نقدّره جميعاً». المفارقة في أن يستشهد بهذه الحكمة الأفريقية حمدون توريه، أمين عام «الاتحاد الدولي للاتصالات» الذي يشرف على مرور مليارات رسائل الإنترنت، والفيسبوك، واليوتيوب، والصحافة الإلكترونية، والفضائيات، والتعاملات المصرفية، والتجارة المالية، وثرثرة لا مثيل لها في التاريخ يتبادلها سكان الكرة الأرضية عبر الهواتف الأرضية والنقالة. وقد حلّ الصمت حين تعطلت شبكة «المؤتمر العالمي للاتصالات» بعد يومين من استشهاد توريه بحكمة الصمت في كلمته الافتتاحية. لحظتها بدا المؤتمر الذي يختتم أعماله يوم غد في دبي كنكتة مشهورة عن انفجار عجلة سيارة تقلّ ثلاثة عاملين في الكمبيوتر. مدير مبيعات الكمبيوتر أعلن أن الوقت حان لشراء سيارة جديدة، فيما نصح مهندس الكمبيوتر بأن يجربوا تحويل العجلة الأمامية إلى الخلف، لعلها تحل المشكلة. مبرمج الكمبيوتر قال: «لنحاول تشغيل السيارة مرة أخرى، ونرى ما إذا كانت المشكلة قد حلّت نفسها». وقد حلت المشكلة نفسها عندما توجهت الشبكة إلى موقع إلكتروني احتياطي في منطقة جغرافية أخرى. وهذه هي قوة الإنترنت التي ابتكرها أصلاً علماء وزارة الدفاع الأميركية لتأمين استمرارية الاتصال عندما تنهار الاتصالات. والمشاكل، كما يقول المثل الأفريقي «كالفلفل الحار يضفي النكهة على الحياة». إعلان عصابة قراصنة الحاسوب مسؤوليتها عن تعطيل الشبكة أضفى نكهة التحدي الشهية على المؤتمر الذي شارك فيه ممثلو 193 دولة. وكشف توريه، وهو مسلم من مالي درَسَ الهندسة الإلكترونية في الاتحاد السوفييتي، عن تهديدات وجهتها عصابات الجريمة السيبرانية للمؤتمر قبيل انعقاده، وقال: «ما يثير السخرية أن نفس الأشخاص الذين يدّعون أنهم يكافحون من أجل حرية الإنترنت، يمنعون سكان العالم من النفاذ لهذا المؤتمر». وإذا كان العلماء يكتشفون الموجود، فالمهندسون يخترعون ما لا وجود له. وقد اخترع المهندسون الذين يشكلون القوة المحركة لمؤتمر دبي وسائل تحقيق الاتفاقية التي تغطي اتصالات الهاتف والتلفزيون والراديو، واتصالات الإنترنت، وهي أُم الاتصالات جميعاً. وقد انتصر الاتحاد بالاتحاد. فالقوة الاتحادية لدولة الإمارات التي احتفلت منذ وقت قريب بذكرى اليوم الوطني الحادي والأربعين لقيامها، أبدعت تقنيات تفاوضية تعمل في كل الظروف. رئيس المؤتمر، وهو مدير عام «هيئة تنظيم الاتصالات» في الإمارات، كرر مرات عدة الدعوة للتوافقية، واتبع تكتيكاً توافقياً حوّل كل موضوع خلافي كالطاقة، أو حماية البيئة، أو نفاذ الخدمات لذوي الإعاقات، إلى لجان مهمتها التوصل إلى صيغة توافقية. وأعلن توريه عدم طرح أي فقرة في الاتفاقية الجديدة للتصويت دون الاتفاق عليها. ويمنح الإنترنت أكثر من مليار إنسان يستخدموه حالياً قدرة الحصول على المعلومات وتبادلها دون حدود أو قيود؛ جغرافية، أو سياسية، أو اجتماعية. وهي ليست قدرة تراسل اعتيادية، بل قدرة إدارة عمليات سياسية وتجارية وإنتاجية ومالية مرقمة تُقدر بتريليونات الدولارات عبر الإنترنت، وتطرح السؤال عمن يملك جميع هذه المعطيات الرقمية، ومن يُسمح له بالحصول عليها؟ هذا ميدان الصراع الحالي بين الحكومات وعمالقة الإنترنت؛ «جوجل» و«مايكروسوفت» و«فيس بوك» و«تويتر». و«عندما يُستخدم الاختراع من قبل مليارات البشر عبر العالم، لا يعود ملك شعب واحد مهما بلغت قوة هذا الشعب. ينبغي إيجاد آلية توفر لبلدان عدة فرصة اتخاذ القرار. أعتقد أنها الديمقراطية، هل تعتقد أنه أمر ديمقراطي؟». في الإجابة على هذا السؤال الذي طرحه توريه على الكاتب الأميركي المتخصص بالإنترنت، مايكل غروس، نعثر على حقيقة معضلة أميركا التي يفضح الإنترنت الذي ابتكرته جرائمها، ويخلد ضحاياها إلى الأبد. فالإنترنت العابر للحدود لا مركز له، ويمكن استخدامه كعنوان بريدي لكل إنسان أينما كان. وكما يقول المثل الأفريقي: «لا تقلل أبداً من قوة الناس الأغبياء في المجموعات الكبيرة». فعصابات الجريمة السيبرانية كالمجموعات الإرهابية قوة غبية في حرب مكشوفة تخوضها القوى والشركات العظمى من أجل السيطرة على الإنترنت. وتوريه، الذي شغل مناصب قيادية في الاتحاد منذ تسعينيات القرن الماضي، الهدف المفضل للأغبياء. وفي مقالة عنوانها «هل سيسيطر البلطجية على الإنترنت»، حذّرت صحيفة «نيويورك بوست» اليمينية من «تلميذ المخابرات السوفييتية من عصر الحرب الباردة»، وادّعي كاتب المقالة، آرثر هيرمان، «أن موسكو وواشنطن وراء مؤتمر دبي، وكل شيء تتفق عليه الصين وروسيا والأمم المتحدة ليس في صالح أميركا أو قضية الحرية»! وحذّر هيرمان من أن الهدف الرئيسي لمؤتمر دبي هو تغيير القواعد التي تنظم بموجبها شركة «آيكان» نظام الإنترنت، وعناوين المشتركين فيه. وتختلف هذه اللهجة الحمقاء عن كلمة فادي شحادة، المدير التنفيذي لشركة «آيكان» ICANN التي يدور الخلاف حول دورها في إدارة الإنترنت. حرص شحادة، وهو لبناني أميركي، على تخصيص جزء من كلمته في المؤتمر للحديث بالعربية، معبراً عن امتنانه للدعوة التي وجهتها له دولة الإمارات و«الاتحاد الدولي للاتصالات»، ووعد ببدء موسم جديد للعلاقات مع الاتحاد، وبأن يعمل كل ما باستطاعته لتغيير صورة الحرب القائمة بينهما، ليصبح التعاون «قلعة بلا جدران وواحة مفتوحة». وهذا موسم المثل الأفريقي الذي يقول: «إذا خرجت السمكة من النهر لتقول لك إن للتمساح عيناً واحدة فقط، فينبغي أن تصدقها». لمن النصر في حرب الإنترنت العالمية؟ هذا السؤال الذي يتردد في عناوين الصحف العالمية بمناسبة مؤتمر دبي، يجيب عنه الإنترنت منذ مولده في ستينيات القرن الماضي. لماذا لم يسمع كلام الإنترنت حتى مؤسس «آيكان» فنت سيرف، الذي يُعتبرُ «أب الإنترنت»؟ أدرك سيرف منذ ساهم في ستينيات القرن الماضي بتطوير «بروتوكول الإنترنت» في «البنتاجون» أن «النظام كأنه فالت الزمام»، وهو يتصور حتى الآن أن الإنترنت يثير مشاكل تتعلق بسيادة الدول. هذا صحيح فالإنترنت الفالت الزمام يعمل لحساب من يعمل لحسابه التاريخي، وهو كالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر التي لم تنتظر الإذن بالانطلاق وتغيير العالم بلا رجعة. وكنتُ هناك عام 1988، ليس في ملبورن بأستراليا، حيث وضعت المعاهدة التي يفاوض مؤتمر دبي لوضع بديل لها، بل في لندن أتدرّبُ على أول برامج كمبيوتر عربية للنشر الصحفي. طوّرت البرامج مجموعةُ مهندسين يساريين عراقيين أنشأوا شركةً غير ربحية اسمها «ديوان». والعالم العربي اليوم كله ديوان برامج «ديوان»، ومشتقاتها المستخدمة في معظم الصحافة العربية. وعندما تحدّث قبل أيام في التلفزيون قائد مجموعة «ديوان» المهندس علي الأعسم أدركتُ أن الإنترنت لكلينا، كما الحبيبة، يكتم جمالها أنفاسنا عندما نراه.