في هياج الإسلام السياسي لتطبيق الشريعة، في عصر تبدلَ فيه كل شيء، إلا الثوابت الدينية التي لا تتعارض مع العصر، لنا الاستشهاد بما سماه الخليفة عمر بن الخطاب (اغتيل 23 هـ) بـ«زمان الضرورة» (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك)، بمعنى ليس هناك قانون لإدارة الحياة يكون صالحاً لكل زمان ومكان! هذا الذي لا تريد الأحزاب الدينية تقديره. لأن الدعوة إلى تطبيق الشريعة على الحياة العامة، يضمن لهم أسلمة المجتمع، وبالتالي لا تداول في السلطة، فهم الفائزون في كل انتخاب، وتدريجياً تتحقق لهم ديكتاتورية دينية، تلك التي حذر منها من لا يزايد على تدينه، ويعذرني القارئ إن كررت الاستشهاد. قال عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902): «تضافرت آراء أكثر العلماء، من الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان، على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستعباد الديني. والبعض يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، وأبوهما التغلب والرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون، لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان، أحدهما في مملكة الأجسام، والآخر في عالم القلوب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد)، والأحزاب الدينية تريد جمع المملكتين فيها. وقد جاءت الإشارة إلى ذلك على لسان المجتهد الشيعي محمد حسين النائيني (ت 1936): «هي شعبة الاستبداد الديني، ويعتبر علاج هذه القوة بعد علاج سابقتها من أعسر الأمور وأصعبها، وذلك لشدة رسوخها بالأذهان والقلوب أولاً» (تنبيه الأمة وتنزيه الملة، مرفق مجلة الموسم، ترجمة: صالح الجعفري). وللتأكد من صحة ما ورد نأتي النص مترجماً بكلمات أُخر: «وعلاج شعبة الاستبداد الديني أصعب وأشكل من علاج باقي القوى، بل هي في حدود الامتناع، ولا سبيل للردع عن الاستبداد وإظهار الشهوانية بمظهر الدين إلا بالعدالة والتقوى...» (تنبيه الأمة وتنزيه الملة، ترجمة: عبد الحسن آل النجف). نسأل: أليس في سلوك الأحزاب الدينية تطبيق لشهوانية السلطة باسم الدين؟! على الرغم من أن «الإخوان المسلمين» بمصر، والإسلاميين كافة، لم يأتوا بالأغلبية التي تؤهلهم للغلبة على مملكتي الأجسام والقلوب، سعوا إلى تطبيق الشريعة بسرعة، وحصر التشريع المدني والديني بالمؤسسة الدينية التقليدية «الأزهر». بطبيعة الحال لن يبق الأزهر كما هو، بل سيغيرونه إلى الإخوانية بالكامل، فالمرشد هو التشريع وهو التنفيذ، ولن يبقوا خلال فترة وجيزة فقيهاً لا يسير على أهوائهم، ذلك الدستور الذي عُرف في وسائل الإعلام بدستور «الإخوان»، لا دستور مصر. فسالت الدماء احتجاجاً عليه، وأخرج «الإخوان» شبابهم المُعدين للانقضاض على المتظاهرين بغزوة الجمل نفسها، تلك التي أطلقها النظام السابق لإرعاب المتظاهرين، وكان «الإخوان» ساعتها يقفون على التَّل مشرئبين ينتظرون الكفة الأرجح كي يميلوا إليها في اللحظة المناسبة، إذ قدم القرضاوي مصلياً في ساحة التحرير لخطف فرحة المصريين. راودتني الأفكار وأنا أنظر في تعامل الخليفة عمر بن الخطاب، عندما أوقف العمل بأربعة نصوص قُرآنية، هل خرج منددون بخطوته آنذاك، أو اتهموه بالمروق على الدِّين مثلاً، أم أن الناس وكبار الصحابة، استحسنوا الإجراء بمبرر قوي وهو «زمان الضرورة»، ولم يكن ما بينه وبين نزول الرسالة سوى أعوام قليلة، ومنها: أوقف حصة المؤلفة قلوبهم، «قد ذهب أهل هذه الآية، وإنما كان في دهر النبي»، وأوقف أخذ الصدقات في عام الرمادة (18 هـ)، وهو عام المجاعة، و«ثم بلغ من نظره لهم: أنه درأ القطع عن السُّراق في مثل هذا العام، فقال: لا قطع في عام سنة»، ولم يوزع أرض العراق وفلاحيها كغنائم، وقد جاء في كلِّ ما تقدم نصوص قرآنية» (ابن سلام، كتاب الأموال). لعل الرواية التالية، والخاصة في قيام دولة «المُلثمين» بالمغرب عام 448 هـ، تفيد نموذجاً تاريخياً لما يصبو الإسلام السياسي لتحقيقه اليوم، من استغلال الشريعة والعاطفة الدينية من أجل إقامة دولة ملثمين وملثمات، لكن بعد ألف عام، من دون حِساب لـ«زمان الضرورة»، الذي نطق به الخليفة الراشد الثاني، وقصة ذلك: أن «توجه رجل منهم اسمه جوهر، من قبيلة جدالة إلى أفريقية، طالباً للحج، وكان محباً للدين وأهله، فمرَّ بفقيه بالقيروان... فلما انصرف من الحج قال للفقيه: ما عندنا في الصَّحراء من هذا الشيء غير الشهادتين، والصلاة في بعض الخاصة، فابعث معي من يعلمهم شرائع الإسلام! فأرسل معه رجلاً اسمه عبد الله بن ياسين الجزولي... فرحبوا بهما وأنزلوهما، وقالوا: تذكر لنا شريعة الإسلام، فعرفهم عقائد الإسلام وفرائضه، فقالوا: أما ما ذكرت مِن الصَّلاة والزَّكاة فهو قريب، وأما قولك: مَن قتل يُقتل، ومَن سرق يٌقطع، ومَن زنى يُجلد أو يرجم، فأمر لا نلتزمه، اذهب إلى غيرنا» (ابن الأثير، الكامل في التاريخ). ذهب الجزولي إلى القبائل المجاورة، ومنهم من أطاعه ومَن خالفه في مشروعه، فلما تمكن قال لأتباعه: «قد وجب عليكم أن تُقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق، وانكروا شرائع الإسلام، واستعدوا لقتالكم، فأقيموا لكم رايةً، وقدموا عليكم أميراً. لكن ما هي إلا فترة وجيزة ويفتي الجزولي بكفر الأمير، «حكم عليه بنقض البيعة، وشق العصا، وأراد محاربة أهل الحق (الكُزولي وأصحابه)، فقُتل بعد أن صلى ركعتين». فظل الجزولي يتحكم، ويباشر الفتوحات، حتى هُزم وجماعته الملثمون، وقُتل الفقيه المؤسس. معلوم أن ذلك المجتمع الرافض لتطبيق الشريعة، تحت أمر الفقيه عبد الله بن ياسين، لم يرد أن يُسلم له دينه ودنياه، فالمخالف يصبح ناكثاً لبيعته. وفي يومنا هذا يمثله المرشد العام ونوابه المراقبون بالبلدان الأخر، فقبل السلطة كانوا يوزعون الحجاب مجاناً، ويستغلون المعوزين في محاولة لخلق مجتمع متدين لإظهار أمرهم لا أمر الله، ضاربين بحقيقة «زمان الضرورة» عرض الحائط، ولو عاد عمر بن الخطاب وواجههم بإجراءات استحقاق الألف وأربعمائة عام، من تغير الأزمان، لأشاروا إليه بناكث البيعة! لأنه، حسب ما تقدم، يستنكر حاكميتهم. على «الإخوان المسلمين» أن يقرأوا التاريخ قراءة المتأني، وينظروا جيداً في التجارب السابقات، مثلما الآخرون قرأوا تاريخهم، أيكتشفوا أنهم وضعوا الإسلام في محنة الحزبية والأيديولوجيا، فرفعوه شعاراً: «الإسلام هو الحل» ولا حل بأيديهم. فالإسلام ليس كشافة وفتوة، ولا حاكمية، ولا نظام خاص، إنه دين لا دولة ملثمين!