تقلقنا قضية السلم الاجتماعي التي باتت تهدد استقرار المجتمع الخليجي بنسب متفاوتة، نتيجة لغياب الوعي الوطني لدى البعض، مع أنهم يحملون درجات علمية كبيرة، ويفترض منهم الانتباه والمقارنة مع ما يحدث في المجتمعات الأخرى. هي اليوم أشبه بظاهرة عربية. وإذا وجدنا العذر لمواطني بعض الدول العربية لأسباب مختلفة فإن الأمر خليجياً يكاد يكون نوعاً من «البطر السياسي»، خاصة وأنني كنت في زيارة لدولة عربية وتعمدت الاحتكاك بالمجتمع، وبات بعض المراقبين فيها يتوقع أن تنفجر مسألة السلم المجتمعي في أي لحظة. ومما يزيد القلق أن الذين يعملون على هز هذا الاستقرار مجموعة من أبناء الخليج ومن داخل الدول الخليجية نفسها، كل في مجتمعه، وبات لا يسمع إلا صوته، ولا يرى ما يحدث في المجتمعات الأخرى، وكأنه فقد رشده؛ إما لأهداف شخصية لها علاقة بانتماءاته الخارجية بعد صعود تيارات دينية معروفة بولاءاتها العابرة للحدود، أو لأهداف خارجية تشترك معهم فيها منظمات مشبوهة، لها أهدافها الاقتصادية -قبل السياسية- ضد الاستقرار الخليجي. والملفت أن هذا الموضوع بات على لسان كل مراقب أجنبي للشؤون الخليجية، وبات للآخرين خيالات حول إمكانية مس هذا الاستقرار نتيجة لتواجد جاليات أجنبية في هذه الدول، بقدر ما أنه يتعدى الجالية العربية التي يمكن أن تكون الجماعات الدينية مسيطرة عليها لكون التنظيم «الإخواني» تنظيماً عالمياً. والكل يؤكد أن الموضوع مسألة وقت. بل إن الصحافة الغربية، وغيرها من وسائل الإعلام، لا تكاد تخلو من ذكر هذا الموضوع واستقراء مستقبله؛ وهو ما يعني أهمية إدراك أبعاد الموضوع وأخذه بجدية من أبناء الخليج؛ لأنهم هم الخاسر الأكبر فيه. قد تختلف الأسباب التي تدعو هؤلاء الأفراد الخارجين إلى هز الاستقرار وكأن الأمر لا يعنيهم ولن يمسهم؛ فالحالتان الإماراتية والكويتية غير الحالتين البحرينية أو السعودية، والحالة العمانية هي الأخرى تختلف عن الحالات الأخرى، ولكن النتيجة هي اهتزاز السلم المجتمعي الخليجي، الأمر الذي يظهر الحاجة إلى موقف خليجي موحد، من أجل صد هذا الخطر بشكل واضح وصريح. نحن نواجه أزمة نكران الجميل للوطن من بعض أبنائه الذين يسعون من أجل هزيمته وكسره بشعارات رنانة. وحتى لو افترضنا مشروعية مطالبهم، فإن الزمن غير مناسب، خاصة وأن الاستهداف واضح ضد دول الخليج. والخوف أنه إذا ما تحقق لهم من مؤامرات فقد يخسرون هم قبل غيرهم، ووقتها لن يستفيد من سعى إلى هز الاستقرار، وسيصبح المجتمع عبارة عن فوضى كاملة. ولدينا تجارب تاريخية أكدت أن المسألة ليست شعارات فقط، بل طالما تحققت الأهداف الإنسانية والتنموية بعيداً عن الشعارات، فالكل يكسب. قبل عام تقريباً عشنا مظاهرات في أعرق الديمقراطيات في العالم: بريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، واليونان، لأسباب متعلقة بالحاجة إلى الإصلاح الاقتصادي، أو التنمية، أي أن الهدف النهائي لكل المجتمعات هو إصلاح الأوضاع الاقتصادية والتنموية، وربما نحن في الخليج نسبياً لا نعاني هذا الموضوع، مقارنة بالمجتمعات الأخرى، بما فيها العديد من المجتمعات الغربية. ولو نظرنا إلى المفردات التي تغوي هؤلاء الخارجين لوجدنا أن مفاهيم الحريات بالمقاييس الغربية لم تنقذ دولة، مثل العراق، من حالة الفوضى المجتمعية، ولم تجعل المصريين متوحدين بل قسّمتهم؛ لأن الهدف لم يكن الوطن وإنما المصالح الخاصة. مواطنو الخليج مصدومون لسببين: السبب الأول، أن من كان يتوقع منهم أن يقودوا التنمية إلى آفاق أرحب وأوسع انقلبوا على المجتمع، وباتوا لا يفكرون فيما يمكن أن يحدث لباقي أفراد المجتمع، إذا ما حدثت الفوضى المجتمعية التي يسعون لها، وبدلاً من أن يكونوا «قناديل» ترشد أفراد المجتمع إلى الإصلاح الحقيقي وإكمال البناء باتوا اليوم يحرضون على الفوضى، مستغلين حضورهم المجتمعي، باعتبارهم قادة رأي وفكر ومستفيدين من وسائل التواصل الاجتماعي. السبب الثاني، أن كل أفراد المجتمع كانوا يفكرون في الخطر القادم من الخارج -سواء الإقليمي أو التحديات الجديدة- وهو أمر طبيعي حتى فوجئوا بمن يريدون مواكبة ما يحدث في الساحات العربية، تلبية لانتماءاتهم الصغيرة على حساب الوطن، وكأنهم كانوا ينتظرون الفرصة ليسيروا نحو التخريب، وباتوا يقفون بالمرصاد لأي قرار يصدر من القيادات السياسية، ويحركون الشارع الخليجي ضده. ترك من يدَّعون الإصلاح بتمزيق المجتمع قد يقود إلى كارثة مجتمعية حقيقية، وتكون نتيجته إعاقة التقدم والنهوض المجتمعي، الذي تتفوق فيه دول الخليج على غيرها من المجتمعات الأخرى، حتى باتت اليوم وجهة لكل شعوب العالم. وإذا تتبعنا وضع هؤلاء فسنجدهم يتضخمون في الخارج، ويخلقون أتباعاً، بل ويعملون على شراء ذمم البعض الآخر، لأنهم يدغدغون أحاسيسهم إما بالمال أو بالمفردات، لكنهم لا يملكون برامج لتطوير المجتمع، وهذا وضح بشكل واقعي في مصر، فلم يحدثوا أي تطور هناك. المسألة ليست اختلافاً في وجهات نظر حول كيفية النهوض بالمجتمعات وتطويرها؛ فهذا النوع من المسائل الوطنية موجود بالفعل في أدبيات الحوار السياسي الهادئ في الخليج، ويتم الأخذ به إذا صفت النيات. الأمر أخطر من التحرشات السياسية؛ لأنه سيتحول إلى عنف مجتمعي حقيقي، وهو أمر لم يألفه المجتمع الخليجي من قبل، وإذا حدث -لا سمح الله- ما يتمناه هؤلاء القلة، فقد يجر ذلك إلى تداعيات لا يستطيع أحد أن يعرف مدى عواقبها. استخدام المنطق والعقلانية مع أناس يحملون أفكاراً مسبقة، ولا يفرقون بين الأشياء «بمنطق الواقع»، هو محاولة فاشلة للتعامل معهم. ما يفعله بعض مثقفي الخليج هو تناقض بين المنطق العملي وبين التنظير، إذ ما فائدة الشعارات الرنانة والمفاهيم السياسية نظرياً إذا لم تحقق حياة كريمة؟ الدليل يفسره ما شاهدناه من اعتصامات وفوضى في الدول العريقة ديمقراطياً.