عندما حاصر آلاف المتظاهرين مقر المحكمة الدستورية العليا في مصر الأسبوع الماضي وعطلوا العمل فيها وهاجموا قضاتها وسَّبوا بعضهم، كان هذا مشهداً لا سابق له في تاريخ العالم الحديث. لم تتعرض محكمة لمثل هذا الاعتداء السافر في أكثر البلاد استبداداً، ناهيك عن أن يكون الاعتداء على المحكمة العليا نفسها. ولذلك سيظل يوم الثاني من ديسمبر 2012 في ذاكرة التاريخ ضمن الأيام التي تعتبر حالكة الظلام في حياة الشعوب والأمم. لكن ما حدث في ذلك اليوم لم يكن إلا حلقة في مسلسل بدأ بمحاولة إلغاء الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية العليا في يونيو الماضي بحل مجلس الشعب (البرلمان) بسبب عدم دستورية القانون الذي انتُخب على أساسه. فقد بدأ الرئيس مرسي عهده بإصدار قرار لدعوة هذا المجلس للانعقاد بعد حله، رغم أنه تعهد في برنامجه الانتخابي بإقامة نظام ديمقراطي يقوم على قواعد في مقدمتها الفصل بين السلطات واحترام أحكام القضاء. وإذا كانت ردود الفعل السلبية الواسعة حينئذ دفعته إلى سحب ذلك القرار، فقد تواصلت الحملة التي شنها حزبه والقوى الأصولية المتحالفة معه ضد القضاء. وجاء الإعلان الدستوري الذي أصدره في 22 نوفمبر الماضي لمحاصرة دور السلطة القضائية تتويجاً لتلك الحملة. ولم يُلغ هذا الإعلان في 8 ديسمبر الجاري إلا بعد أن حقق الهدف منه وهو تحصين الجمعية التأسيسية التي وضعت مشروع دستور غير توافقي- حتى تحديد موعد الاستفتاء عليه. وعندما اقترب هذا الموعد (بعد غد) لم تعد ثمة حاجة للإعلان الذي ستظل آثاره سارية، وأهمها تحصين كل ما صدر عن رئيس الجمهورية منذ انتخابه ضد الطعن القضائي عليه، الأمر الذي يغلق باباً رئيسياً لا يمكن أن تتحقق عدالة بدون فتحه. وهذا فضلاً عن انقضاء جميع الدعاوى المتعلقة بقرارات رئيس الجمهورية السابقة والمنظورة أمام أية جهة قضائية. ولم يكتف الإعلان الذي تبقى آثاره سارية بكل هذه الإجراءات ضد السلطة القضائية، بل قرر أيضاً إبعاد النائب العام الذي يحصِنه قانون هذه السلطة ضد العزل مثله في ذلك مثل أي قاض ليكون قادراً على أداء دوره دون خوف أو وجل. كما أرفق ذلك الإعلان «الدستوري» في لحظة إصداره نفسها بقرار جمهوري بقانون تضمن تعيين نائب عام جديد اختاره الرئيس بإرادة منفردة وبدون التشاور مع المجلس الأعلى للقضاء. وهكذا تم تعطيل إحدى أهم وظائف السلطة القضائية ومحاصرة دورها في إقامة العدالة وإخضاعها للسلطة التنفيذية على نحو لم يحدث مثله من قبل في مصر. وحتى في عهد عبد الناصر الذي حدث خلاله احتكاك شديد بين السلطتين، لم يتجاوز التدخل ضد السلطة القضائية في ذلك العهد إبعاد بعض القضاة عن منصاتهم. ومع ذلك وُصفت الإجراءات التي شملت إبعادهم عام 1969 بأنها «مذبحة القضاء». وكانت مشكلة السلطة القضائية في عهد السادات محصورة في إنشاء محاكم استثنائية مثل «محكمة القيم» و «محكمة العيب». ومع ذلك قيل إن هذه المحاكم عصفت باستقلال القضاء. أما في عهد «مبارك» فكانت الأزمة محصورة في قانون السلطة القضائية الذي طالب تيار استقلال القضاء بتعديله. فإذا كان إبعاد نحو مائتين من القضاة وُصف بأنه مذبحة، وإنشاء محاكم استثنائية اعتُبر عصفاً، فأي وصف يمكن أن يعبر عن محاصرة الدور الرئيسي للسلطة القضائية نفسها وهو إنصاف المواطنين من أي ظلم ينتج عن قرارات السلطة التنفيذية وأعمالها، ثم محاصرة المحكمة الأعلى في البلاد ومنعها من أداء عملها؟ لقد كانت هذه المحكمة هي الوحيدة بين الهيئات القضائية الرئيسية التي لم تعلق جلساتها احتجاجاً على الإعلان «الدستوري» الصادر في 22 نوفمبر الماضي. ومع ذلك فُرض عليها أن تفعل ذلك يوم 2 ديسمبر الجاري بعيد الحصار الذي ضُرب على مقرها. وتعد هذه هي المرة الأولى التي تتخذ فيها الهيئات القضائية مثل هذا الموقف منذ إنشاء كل منها في مصر، الأمر الذي يؤكد أن الخطر على القضاء جد لا لبس فيه. وعندما يحدث ذلك، يُفترض أن تهتز أركان الدولة التي لم يعد فيها من السلطات الرئيسية الثلاث إلا السلطة التنفيذية في غياب البرلمان الذي يتولى رئيس الجمهورية اختصاصه التشريعي. غير أن السلطة التنفيذية تعاملت مع موقف القضاء باستهانة. وسعت إلى خلق انقسام داخله عبر الضغط على المجالس العليا لهيئاته لقبول الإشراف على الاستفتاء الذي سيُجرى بعد غد على مشروع الدستور. وقد أضعف هذا الانقسام موقف السلطة القضائية التي تتعرض لخطر لا سابق له. وظهر بعض ما يدل على حجم هذا الخطر في الهتافات التي رددها أنصار رئيس الجمهورية في بداية حصارهم لمقر المحكمة الدستورية الأسبوع الماضي ومنها مثلًا «لا إله إلا الله... ها نحرر مصر من القضاة»! ولذلك، فرغم تعدد جوانب الأزمة الشاملة التي تواجه مصر الآن، يبدو هذا الجانب المتعلق بمحاولة السلطة التنفيذية فرض هيمنتها على القضاء هي الأكثر خطراً لأنها تثير السؤال الكبير عن مستقبل الدولة أو مصيرها. فلم يتخيل أحد في مصر أو خارجها أن تصبح الدولة المصرية مهددة، وأن يتم اختزالها في السلطة التنفيذية وشخص رئيس الجمهورية، وأن يتبخر الحلم الذي اقترن بما بدا لأسابيع قليلة في مطلع عام 2011 أنه «ربيع سياسي» يتيح إعادة بناء السلطة التسلطية التي استمرت لعدة عقود. فعندما أعلن الرئيس السابق تخليه عن السلطة مساء يوم 11 فبراير 2011، كان حلم المصريين كبيراً في دولة تقوم على العدالة وتنهي المظالم التي تعرض لها كثير منهم في العقود الأخيرة. غير أن من حلموا بإزالة دولة الظلم يستيقظون الآن على ما يبدو أنه كابوس سلطة تفرض سطوتها بأساليب لا صلة لها حتى بالشكل الذي تحرص أية دولة على أن تحافظ عليه مهما بلغ استبدادها وتسلطها. فلم يحدث في دولة الظلم خلال العقود الماضية إلا القليل من الاعتداء الذي يتعرض له القضاء اليوم، حيث لجأت تلك الدولة إلى التحايل على بعض أحكام القضاء أو الالتفاف عليها بالمخالفة للإجراءات القانونية الصحيحة التي ينبغي اتباعها. لكنها لم تجرؤ على تعطيل سلطة القضاء في مراقبة قرارات رئيسها وأعماله من الناحية القانونية والنظر في الطعون ضدها. كما لم تتعرض حتى محكمة ابتدائية لاعتداء من النوع الذي حدث ضد المحكمة الدستورية العليا. ولذلك، يبدو أن أخطر أوجه التحول الذي تمر مصر به الآن هو الانتقال من دولة ظالمة ولكنها حرصت على شكل قانوني لا تكون هناك دولة أصلًا بدونه إلى سلطة حاكمة لا تعبأ حتى بالشكل اللازم لوجود الدولة.