محظوظ أنت- عزيزي القارئ- لأنك تعيش اليوم لحظة تاريخية، فعند كل صباح تمر بالشارع تشعر فيه بالناس والحياة والأخبار من خلال رزم الجرائد (الطازجة) المكدسة عند مختلف التقاطعات، وترى بائعاً يؤشر لك من بعيد يدعوك للمطالعة، تجلس في المقهى وتجد أنواع الصحف في استقبالك، تذهب إلى عملك وتجدها تنتظرك على المكتب، وهي معك في البيت والسيارة والطائرة والمزرعة والبر ووسط البحر عند رحلات الصيد في نهايات الأسبوع، إنها تصاحبك في كل مكان. محظوظ لأنك قد تنتمي إلى آخر جيل عاصر الصحافة الورقية، فاليوم يمكنك أن تتصفح هذه الجرائد وتقرأ لهؤلاء الكتّاب الذين عاشوا معك زمناً وأضافوا لك فيه شيئاً من علم أو ثقافة أو بهجة أو ساهموا في تحديد مسار فكرك أو غيروا درب حياتك، تستمتع بهذه اللحظة التاريخية، فأطفالك الصغار قد لا تكتب لهم مثل هذه الفرصة! ليس ذلك تطرفاً أو إغراقاً في التخيل أو ترديداً لنظريات المتشائمين، إنه جزء من الحقيقة التي نعيشها في الحاضر، فقبل سنوات قريبة كنا نناقش ظاهرة الصحافة الإلكترونية وتأثيرها على الورقية، ندرس بكل جدية في ذلك الزمن هل نفرض رسوماً على الدخول إلى مواقع الصحف الإلكترونية، أو نتركها كخدمة دعائية للجريدة، وهل تكون على شكل نص أو مجرد صورة، وبعضهم كان يناقش إذا وضعنا الصفحات كاملة هل نضعها بالإعلان التجاري، أم نفرض رسوماً أخرى على المعلن الذي يرغب في أن يظهر إعلانه إلكترونياً، أو هل نضع الجريدة بأكملها أم مجرد مقتطفات منها، ومتى يتم بث المادة، هل مع صدور الصحيفة أم في ساعات متأخرة حتى لا تؤثر على التوزيع والمبيعات الورقية. اليوم عندما نتأمل الواقع الذي وصلنا إليه ونتذكر تلك الاجتماعات والنقاشات والدراسات والنظريات المتشائمة أو الجريئة في تحمسها للثورة التكنولوجية، لا نملك إلا الضحك، كيف أن التقنية ضحكت علينا جميعاً وتجاوزت كل تخوفاتنا وتطلعاتنا، وساقتنا إلى واقع آخر، وتطور لم يخطر على بال أحد. ذلك الجيل الذي كان يناقش قبل عشرين عاماً تأثير التكنولوجيا على الصحافة الورقية يبدو أنه انقرض أو أحيل إلى التقاعد، فلم يعد له صوت، لا تبرير عنده ولا مزيد من التنظير، ودعوات الانتظار والترقب واكتشاف الحلول بعد وقوع الحدث أو الأزمات. لقد غرد إعلام القرن الجديد بعيداً. اليوم، الصحافة انشغلت بأولويات أجدى عندها عن تطوير ومتابعة المطبوعة الورقية، صارت هذه آخر همها، فتجدها تعمل على تطوير خدماتها الإلكترونية، فتحديث الأخبار يتم على مدار الساعة وقد تقرأ الخبر فيها لحظة وقوعه أو يصلك كرسالة نصية على هاتفك أو من خلال خدمة «البلاك بيري» ممهوراً باسم الجريدة المرسلة. وأصبحت تهتم كذلك بالصورة الفيلمية وهي لم تكن يوماً ضمن اختصاصات الجريدة التقليدية، فلا تستغرب إذا صادفت محرراً في الميدان يحمل كاميرا صغيرة بدل القلم أو جهاز التسجيل. كذلك تشتغل هذه المؤسسات على الترويج والانتشار بطرق تختلف عن السابق، فتسعى الآن إلى أن تعرض بضاعتها وتشهر اسمها من خلال وسائط الإعلام الاجتماعي وتحديداً «تويتر» و«فيس بوك». أما لماذا لا تزال تحافظ على المطبوعة الورقية حتى الآن، فسببه قد يكون وجود الثقل الإعلاني الذي لم ينتقل بعد بسرعة إلى عالم الإعلام الإلكتروني، وأيضاً للقراء العجائز الذين ينتظرونها كما تعودوا كل صباح، ولحاجة قد تكون نفسية وهي أن الصحافة الورقية نوع من «التراث» الذي تأقلمنا عليه وعاش بيننا دهراً. في الزمن الآتي ستنقرض هذه الصفحات العريضة الطويلة وصناعتها، والتي نطالعها ونستمتع بها في هذه اللحظة، فسينتهي عصر مصطلح مطابع الصحف الكبرى التي تتكون من عدة طوابق ومساحات تعادل ملاعب كرة القدم من البنيان، وتجهيزات معقدة من التوصيلات والمعدات الكهربائية والإلكترونية، سيهدأ هذا الدوي والضجيج المتواصل الذي يسمعه العاملون بهذه الدور، سنوفر أطناناً من الورق والحبر، سيخف التلوث بالتأكيد، وستعود الحياة إلى الأشجار التي أصابها الموت السريع والانقراض بفعل حاجتنا إلى صنع الجريدة الورقية. ألا تلاحظ أن حجم الجرائد بدأ يتقلص، فالحجم الكبير A2 أو صحافة 8 عمود أصبحت سبعة، وتقلصت الصحف العالمية العريقة والتي تمثل مدارس في تاريخ الصحافة وتطورها لتأخذ مقاس التابلويد مثل«الانديبندنت» و«التايمز» اللندنية وجاءت «الجارديان» مؤخراً إلى مقاس أكثر صغراً وهو المسمى «برلينير». لكن الأكثر جرأة وتغييراً نحو العالم الجديد هو قرار مطبوعة مثل «نيوزوييك » أنها ستتخلى عن عرشها ومجدها الورقي الذي تواصل على مدار ثمانين عاماً لتكون مجلة إلكترونية فقط اعتباراً من أول يوم في العام المقبل، وتتبعها في ذلك صحيفة أخرى مهمة مثل «ذا تايمز-بيكايوني» الأميركية. مستقبلًا سنضطر إلى الذهاب للمتاحف ومراكز الوثائق لنشرح لأولادنا، ماهية الصحيفة في العصر الماضي، وكيف كنا نكتب أو نقرأ جريدة ضخمة في شكلها وحجمها، ونضطر أن نلفها لكي يمكننا حملها، سنخبرهم أننا كنا نكدسها لتكون مرجعا أو نعود لقراءتها يوماً، لكن الطبيعة في حالات كثيرة تقضي عليها فيصفرّ لونها ويبهت حبرها، أو تتغذى عليها الحشرات أو يتلفها المطر سريعاً إذا جاء إلينا ووجدها في طريقه. يوماً ما سنفتقد صباح سمير عطا الله، وسترحل عنا مقالات جهاد الخازن، لن نقرأ ناصر الظاهري، وستغيب عنا إبداعات علي بوالريش في وصف الوطن برسم ثقافي متبحر في اللغة والحنين. ستكون «الاتحاد» مجرد لوح إلكتروني لا رائحة فيه للحبر ولا طعم للورق. والإشكالية الأخرى هي أنه لو بقيت الصحافة الورقية عقداً آخر من الزمن، فإن جيل الكبار والذي لا يزال آخر رجالاته ونسائه يعيشون بيننا في هذه الصحافة، سينقرض ويتخلى عن مكانه، ولا يوجد له امتداد أو شبيه، فهذا الجيل عاش زمن العمالقة وتأثر بهم ومثّل تكملة لهم في الثقافة والأخلاقيات والمهنية. صقلته الممارسات وأنضجته تجارب ومماحكات السنين، وأخذ الخلاصة. إنه المدماك الأخير الذي لا بديل عنه في عالم الصحافة والإعلام العربي عموماً.