تتصاعد وسائل التدمير والتخريب في سوريا إلى درجة لم يعد ممكناً أن يحافظ الباحث المتخصص والمراقب العام على حدّ ضروري من التوازن والهدوء حيال ذلك. فأكثر أشكال العنف، بل وأكثرها فحشاً يمارسها رجال قادمون من خرائب التاريخ، الموت والتدمير لكل ما يتحرك وما لا يتحرك، بحيث لا يبقى بشر ولا شجر. من هنا، يشعر المرء بأسف وأسى وغضب حيال أولئك، حين يعلنون على الجدران، في حمص ودمشق مثلاً: إمّا الأسد، وإمّا أن نحرق البلد، والطريف والمرعب والمأساوي أن هذا القول يعنيه أصحابه فعلياً، ولا يمثل بالتالي مجرد شعار نظري. وحيث يعلن هؤلاء ذلك على النحو المذكور، فإنه يشكل حالة خطيرة على الجميع، بمن فيهم هم أنفسهم. ذلك أن هذا الذي يرفعونه إنما هو خيار وحشي ربما غير مسبوق، ويتأسس على مبدأين اثنين، أما أولهما فيقوم على الأحادية المطلقة، ومن ثم على رفض التعددية كما على إدانتها بمعنى ما، ديني أو قومي أو إثني أو طائفي...إلخ. ويبرز المبدأ الثاني فيتجسد في الهُوية القائمة على نمط من الظلامية المؤسَّسة على رفض «الآخر» رفضاً يُفضي إلى الحط من قيمته الحضارية والأخلاقية والإثنية والعقلية وغيره. إن ظلامية النظام الأمني تظهر، هنا، بكيفية فاضحة واستفزازية. فهو يرى في الآخرين من سكان الوطن خُدَّاماً لا حقوق لهم مدنية ولا سياسية ولا اقتصادية وغير ذلك. وهو الآن يقوم بتدمير سوريا بلا هوادة، دون أن تظهر منه بادرة حقيقية للتراجع أو الاعتذار أو إيقاف حمام الدم. ذلك لأن ما يعتبره شعاره الاستراتيجي يتمثل في القول التالي: إن أقلّ ما يقبل به هو، لن يكون أقل من «كل شيء»! أو من ثم، لا يحْكُمنَّ أحد بإنقاذ سوريا، إن لم يكن عن طريق النظام الأمني إيّاه، أي إن لم يكن عبر عودته منتصراً مؤزَّراً، ومتربِّعاً على عرش سوريا ثانية ولِعُمر يمتد إلى أربعين أو خمسين عاماً أخرى! مثل هذه الصورة أو ما يقترب منها، ليست مقبولة، إنها استراتيجية الموت، ذلك لأن من طبائع الأشياء أن ينتفض الناس، حين يجدون أنفسهم قد جُرِّدوا من الحرية والكرامة والعدالة. ممَّا سبق يتضح أن سوريا، الآن، تعيش لحظة حاسمة في تاريخها، بل كذلك -ولا نشك في هذا- في تاريخ المنطقة والعالم. فهذه اللحظة الحاسمة هي لأنها تنتظم في سياق تاريخي هو ولادة جديدة مركّبة عجزت (بسمة قضماني) عن الإحاطة بها، حين ربطتها بمصير إسرائيل، التي قالت عنها: إنها تمثل ضرورة تاريخية، وحين لم يدرك المجلس الوطني السوري، في تشكيلته الأولى، ما ينبغي أن يقوم به في سبيل ضبطه وتطويره، وفي سبيل جعْله أحد تجليات الواقع السوري المشخص. «الحد الثالث»، الذي أغفل اكتشافه النظامُ الأمني في سوريا، جرى تغييبه من قِبل هذا الأخير، بحيث بدا الأمر مغلقاً. لقد تجاهله النظام المذكور، بالرغم من أنه وظّف الحديث عنه في خدمته. ما هو هذا الحد الثالث؟ إنه ذالك الذي يخرج من طوق المعادلة، التي صدّرنا مقالتنا بها، نعني: إمّا هذا وإمّا ذاك! فهذه المعادلة تضع الباحثين عن حلٍ وطني ديمقراطي لما نحن بصدده أمام قَدَر أحمق صارم: أن نملك كل شيء، أو أن نحرق كل شيء! نعم، لم يتمكن النظام السوري منذ بداياته في عام الـ70 أو في عام 63 (بداية العمل بقانون الطوارئ)، أن يقترب من زاوية ما من زوايا حل سلمي وطني يجنّب سوريا الحريق، فلا يملكون كل شيء، ولا يحرقون كل شيء، وإنما يحْتمون بالتاريخ المفتوح على كل الفرقاء!