يمكن القول إن أحد أهداف «حماس» من وراء زيارة مشعل إلى قطاع غزة هو إعادة تجديد قيادته للحركة عبر فترة ولاية أخرى. أرادت «حماس»، أن تُعيد مشعل على رأس القيادة ولكن عبر استعراض الحشود في القطاع، وعلى خلفية فشل إسرائيل العسكري الأخير ضد غزة حتى تزيل ما علق في أذهان الكثيرين من لغط وأقاويل وتوقعات حول استقالته من منصبه، وما رافق ذلك من ارتباك في تصريحات قياديي «حماس»، ثم ما تلا ذلك من عدم انتخاب بديل عنه. وتترافق هذه مع ما تواتر عن وجود رغبة دول عربية عدة ببقاء مشعل من ضمنها مصر والأردن وقطر. ويمكن القول، تقديراً وتوقعاً هنا، إن ذات الرغبة موجودة أيضاً عند «عباس» إذ بنى القياديان علاقة قوية شبه متميزة في خضم التنافس والاحتقان الفتحاوي- الحمساوي خلال السنوات الماضية. وربما رأت «حماس» أو تلقت النصيحة من أكثر من طرف بضرورة الإبقاء على «مشعل» في المرحلة الحالية وبناء على ذلك كله يعود مشعل قائداً لـ«حماس» عبر عملية تنصيب شعبي و تجب المرحلة التي سبقتها وما شابها من ضعف وتردد وحيرة إزاء من سيخلفه. وبعيداً عن تقديرات «حماس» وإعادتها لمشعل قائداً لمكتبها السياسي، ومن زاوية المصلحة الوطنية الفلسطينية، فإن بقاء مشعل وعودته للقيادة ستخدم بالتأكيد مسار المصالحة الوطنية، ومحاولات إيجاد أرضيات توافقية مشتركة. ففي خلال السنوات الماضية استطاع مشعل أن ينتقل في خطابه ونظرته العربية من مستوى الهم التنظيمي إلى مستوى الهم الوطني. وفي داخل التنظيمات والأحزاب الفلسطينية، كما هي حال الأحزاب في كل مكان، يختلط ما هو حزبي بما هو وطني، وما هو خاص بما هو عام. ويسود في غالب الأحايين التبرير النظري المُستند على فكرة أن التنظيم وُجد أساساً من أجل خدمة الوطن ولذلك فإن افتراض وجود تضارب بين مصلحة التنظيم ومصلحة الوطن هي مسألة «مفتعلة» و«مغرضة». بيد أن واقع الأمر والسياسة، ومرة أخرى في كل مكان، يدلل على شواهد دائمة ومستديمة تشير إلى جبروت فكر التنظيم وأولوياته التي تطيح بكل الأولويات الأخرى، حتى لو كانت وطنية. والوعي بهذه الإشكالية العميقة والاعتراف بها ثم التعامل معها يحتاج إلى جبروت فكري وشجاعة سياسة غالباً ما تكون نادرة في الأوساط الحزبية، حيث التنافس على الظهور بمظهر المخلص للتنظيم وأفكاره وأيديولوجيته. ولنا أن نتأمل واقعة الانقسام الفلسطيني وتقديم الحزبي على الوطني عند «فتح» و«حماس» برغم كل الادعاءات بغير ذلك. فالأولوية الوطنية هي الوحدة والأولوية الحزبية هي الانقسام، والثانية هي التي سادت في السنوات الماضية. وكلما يزداد عدد القادة الحزبيين المنتقلين حقاً وفعلًا إلى أفق وطني، مع بقائهم في مواقعهم القيادية الفاعلة في أحزابهم أو دوائر تأثيرهم، تزداد احتمالات التوافق الوطني والوصول إلى برامج سياسية وائتلافية مشتركة. وهذه المجموعة التي تضع قدماً في «الوسط السياسي» التوافقي وقدماً داخل أحزابها، إضافة إلى مجموعات المستقلين ذوي الصدقية الوطنية، هي التي تقوم بالمهمة التاريخية المتمثلة في تأسيس وتعزيز التحالفات والتوافقات الوطنية، وهي التوافقات التي لا يمكن أن تبدأ فلسطينياً إلا بالمصالحة. وممثلو هذه المجموعة، وهم قيادات في أحزابهم، يتعرضون دوماً إلى الاتهام التقليدي داخل أحزابهم بأنهم «يفرطون» في ثوابت التنظيم، أو أنهم أصبحوا بعيدين عن «نبض الداخل»، وعادة ما يكون متهموهم من «الصقور» الذين يرفعون سقف الخطاب وبنبرة تتسم عادة بالمزايدة الداخلية والتنظيمية. وأفق الوسط الوطني كسب خالد مشعل، وبقاؤه في منصبه القيادي في «حماس» ينبغي أن يُعتبر تعزيزاً للوسط الوطني المنوط به إنجاز التوافقات المأمولة. ويرتبط ما سبق عضوياً بمسألة المصالحة الفلسطينية، وفي التساؤل إن كانت قد نضجت الظروف حقاً للمصالحة التي طال أوانها وفي ما إن صرنا قريبين من إغلاق هذا الملف بشكل جدي ونهائي. في الإطار العام للصورة هناك بالتأكيد عناصر جديدة تشير إلى أن الشروع في المصالحة بات أمراً يتصدر أوليات الأطراف الأساسية وخاصة «فتح» و«حماس». وتأكيدات عباس وخاصة بعد معركة الحصول على وضع الدولة (غير العضو) في الأمم المتحدة توالت وما زالت إزاء أولوية المصالحة. ومن المفهوم أن إغلاق إسرائيل لأية منافذ أخرى، فضلًا عن التأييد الأميركي الأعمى للموقف الإسرائيلي، ساهم في دفع أشرعة الرئاسة باتجاه ترتيب البيت الداخلي استراتيجياً والبدء بالمصالحة. وبالتوازي مع ذلك توالت تأكيدات «حماس» وخاصة خالد مشعل قبل وخلال زيارته لقطاع غزة لتصب في نفس الاتجاه. والتأكيدات من الطرفين تقول إن المصالحة هي استراتيجية أساسية ولا يمكن التنازل عنها، وهي تأكيدات مهمة وأساسية بحد ذاتها وحتى لو كانت هناك شكوك حول مدى ترسخها في الأوساط التنظيمية والحركية الواسعة للفصيلين. كما يجب التمسك، أي التأكيدات على أولوية المصالحة، كإحدى لوائح المحاسبة الشعبية التي تُسأل عنها «فتح» و«حماس» معاً. ومقولة المصالحة «أولوية استراتيجية» مغزاها الحقيقي وترجمتها العملية على الأرض يعنيان تقديمها على أية استراتيجيات أخرى، سواء أكانت استراتيجية المفاوضات والمحافظة على العلاقة الأمنية والغطاء الأميركي في الضفة الغربية، أو استراتيجية «التمكين» وترسيخ سيطرة «حماس» في قطاع غزة. وأحد أهم العناصر الجديدة التي تعزز التفاؤل الحذر بقيام مصالحة يتلخص في مقادير الثقة التي صارت تتوافر الآن لدى «فتح» و«حماس» بعد معركتي حرب الأيام الثمانية (بالنسبة لـ«حماس») والأمم المتحدة (بالنسبة لفتح). وكل من الحركتين تقف على أرضية أكثر صلابة ولديها رأس مال سياسي وشعبي من المفترض أن يقود إلى أفق توافقي جديد عند الحديث عن المصالحة. خلال المعركتين كانت هناك مستويات من التضامن والتأييد المتبادل لم تكن مُشاهدة في السابق. في جولات سابقة من نفس المعارك، حرب الرصاص المسكوب في أواخر 2008، ثم خطاب عباس أمام الأمم المتحدة العام الماضي الذي لم يستكمل بتقديم طلب عضوية فلسطين، خاض كل طرف معركة خاصة به، فيما وقف الطرف الآخر إما محايداً، أو مناكفاً، أو في بعض الأحيان شامتاً بالفشل! والآن نلحظ ديناميات مختلفة تتطور ويدعمها وضع عربي وإقليمي مختلف مع غياب نظام مبارك وانكسار الحصار على غزة وسوى ذلك من تغيرات إقليمية. ولذا فإن الإطار العام الذي يمكن أن تتم فيه المصالحة تحسَّن إيجابياً، ولكن الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه مصالحة مستديمة هو الذي يشكل التحدي الحقيقي وهو البرنامج السياسي. وهنا يتعين أن تتوجه الجهود وينبغي أن تطرح الأفكار الخلاقة، وعلى نار هادئة ومن دون استعجال يؤدي إلى اتفاقات غير ناضجة فشلها المستقبلي يولد إحباطات إضافية ولا يقدم شيئاً لمستقبل فلسطين وتحررها.