تشهد مصر أوضاعاً سياسيةً شديدة الاضطراب، فهي في عنق زجاجة رسم المستقبل بين دولة دينية تسعى لها جماعة «الإخوان المسلمين» الحاكمة ومعها بعض القوى الأصولية الأخرى كالسلفيين على تنوعهم وبين دولةٍ مدنية لم تزل القوى المدنية تسعى إليها وتحرص على إنجازها. سعت جماعة «الإخوان المسلمين» بكل قوّة لفرض رؤيتها وتوجهها عبر إعلان دستوري تبعه تسريعٌ مثيرٌ للاستغراب لعمل اللجنة التأسيسية للدستور كان ينقل على الهواء مباشرة وكانت ضغوط الإخواني حسام الغرياني على ما تبقى من أعضاء اللجنة بعد انسحاب القوى المدنية ظاهرة وملفتةً، كانت الجماعة متعجلة حدّ التهور في الانقضاء سريعاً من المرحلة الانتقالية وتثبيت نفسها في قيادة الدولة بلا شريكٍ ولا منازع. كانت هذه هي ترتيبات الجماعة لاستكمال الاستحواذ وضمان التفرد لسنوات وعقود قادمة بقيادة الدولة المصرية، فالدستور دستورها والقوانين هي التي ستصوغها وستسيطر على العملية السياسية برمّتها، ولكنّ القوى المدنية فاجأت الجميع بتوحّدها وقدرتها على حشد الجماهير وتجييش الشارع والتعبير عن موقفٍ سياسي صلب. في الأزمات يلجأ كلٌ إلى ما يحسن، وقد لجأت جماعة الإخوان المسلمين إلى العنف، فضربت وقتلت وجرحت المتظاهرين أمام قصر الاتحادية، ولكن هذا العنف لم يؤت المطلوب منه من تخويف الناس وإرعاب الشارع والمعارضة، بل على العكس لقد كان محرضاً على المزيد من الحشود والاعتراض، وهنا تراجعت الجماعة عن الاصطدام المباشر وضرب حشد بحشد، ولكنها أخذت تحشد أتباعها المدربين قريباً من حشود المعارضة تهديداً ووعيداً للمعارضين بعدم اقتحام القصر وهو مالم تفكر فيه المعارضة. ما جرى في برّ مصر الأسبوع الماضي والذي قبله هو هبة اجتماعية كبرى ضدّ جماعة الإخوان المسلمين واستخفافها بكل أطياف المجتمع المصري، وهي هبة اجتماعية -لا سياسية فحسب- ما يعني انتقال حجم الاحتقان والغضب إلى العديد من الطبقات الاجتماعية التي إما كانت مؤيدة للإخوان فتخلت عنهم أو كانت محايدة أو متخاذلة عن اتخاذ مواقف سياسية، ولو كان بالإمكان اعتبار الإبداع في الفشل نجاحاً لكانت جماعة الإخوان أنجح الفاشلين. استشعرت الجماعة خطراً محدقاً لم تشعر به منذ بدء الاحتجاجات ولا حتى بعد استحواذها على غالب السلطات، وقد بدا أنها بعد الإصرار على الإعلان الدستوري وعلى الاستفتاء بغرض إظهار القوة والتماسك كانت تصب الزيت على النار ولهذا فقد كان يوم السبت الماضي معبراً بوضوحٍ عن حجم المأزق الذي رمت الجماعة نفسها في أتونه، ويبقى استحقاق الدستور أهمّ محاور الصراع. القوى السياسية المدنية تتوحّد جميعاً في وجه الجماعة، والشارع يحتدم غضباً ويستشيط غيظاً ضدّها، مقرّات الجماعة وحزبها تحرق والهتافات ضدّها يتبادل التفنن فيها الشباب الثائر مع حزب الكنبة الذي تحرّك أخيراً، ومع سيطرة العقلية المؤامراتية بحكم الخبرة والتجربة للجماعة فقد استشعرت الجماعة خطراً وشيكاً وقررت أن تصنع شيئاً. بدت الجماعة مهتمةً كثيراً بعنصرين فاعلين في موازنات القوة بمصر وهما الولايات المتحدة الأميركية والجيش المصري، فأرسلت لأميركا واحداً من أشهر كوادر الصف الثاني من قيادات الجماعة وهو عصام العريان ليشدّ العقود ويطيل في الدعم، وعندما أخرج الجيش بيانه بادرت بتقبّله والثناء عليه بالحيادية والتوازن. يظهر أنّ أمراً ما أهمّ الجماعة يوم السبت الماضي بعد هذه التحركات، فقد أنزلت الجماعة حرسها الحديدي، فخرج المرشد العام محمد بديع عن صمته وعقد مؤتمراً صحفياً كان ينفي فيه حكمه لمصر ولكن حديثه كان حديث القادر المتمكّن لا حديث المضطهد المسكين، وكان يقف بجواره نائبه محمود عزت وهما يمثلان القيادة الحديدية من النظام الخاص للجماعة، وخرج بعدهما بساعات نائب المرشد الآخر والرجل القوي في الجماعة خيرت الشاطر مع بعض القوى الإسلامية، والتي أخرج فيها المجتمعون طرف السكين للتيارات غير الإسلامية واستحضر بعضهم ضياع الأندلس واستعدادهم لتقديم مليون شهيد في سبيل الحفاظ على السلطة. أرادت الجماعة بظهور الصفّ الأول من قيادتها إيصال ثلاثة أمور: الأول، التفسير التآمري بأنّ ثمة مؤامرةً مبهمةً كبرى تدار رحاها ضدّ الجماعة دولياً وإقليمياً وداخلياً، والثاني، التهديد المبطّن لجميع الفرقاء السياسيين والمخالفين للجماعة وإمكانية اتهامهم بالاشتراك في هذه المؤامرة ومحاكمتهم والقضاء عليهم بقوة القانون وسلطة الدولة. الثالث: تمرير الدستور الإخواني في موعده دون «شوشرة». هذه الرؤية التآمرية والاتهامية تمنع أي إمكانية لإجراء حوار سياسي جاد ومثمر، فعلى سبيل المثال حين دعت الرئاسة لحوار قامت مسبقاً بتحديد مواضيعه وسقفه لم يستجب له سوى القوى والأحزاب والرموز الإسلامية التي هي في الأساس متفقةٌ مع مشروع الإسلام السياسي وإن لحق بها بعض الباحثين عن مكان تحت شمس الجدل الدائر، وبقيت المعارضة متحدةً ومتماسكةً في جبهة الإنقاذ الوطني التي رفضت حواراً مشروطاً لا يحقق الحد الأدنى من مطالب المعارضة والشارع. تعاني جماعة «الإخوان المسلمين» الأمرّين من جهتين مهمتين بمصر، وذلك لاستعصاء هاتين الجهتين على الاختراق «الإخواني»، ولذلك فهي لا تني تدعو لتطهيرهما، وهما المؤسسة القضائية ووسائل الإعلام، أما المؤسسة القضائية والصراع معها فقد كان هو السبب خلف كل هذه الأزمة الأخيرة من الإعلان الدستوري إلى الدستور «الإخواني»، وأما وسائل الإعلام فإن لدى الجماعة قناعة راسخة بأنّها وسائل «فلولية» حسب التعبير المصري الجديد والمقصود أنها وسائل تنتمي للنظام السابق، وهي بالطبع قناعةٌ تتسق مع الرؤية التآمرية «الإخوانية»، وإلا فالفضاء الإعلامي مفتوح، ولكن «الإخوان» إذا لم يحسنوا صناعة الإعلام الفاعل والمؤثر فإنهم يلجأون إلى اتهامه بشتى التهم. تمثّل القيادة الحالية لجماعة «الإخوان» الحرس الحديدي القديم للجماعة وهو الحرس الذي ينتمي للنظام الخاص الذي أسسه سيد قطب أكثر رموز جماعة «الإخوان» تطرفاً وعلى رأسهم المرشد محمد بديع ونائبه محمود عزت، حيث كانا سجينين مع قطب في قضية هذا التنظيم عام 1965، وخيرت الشاطر تابعٌ لهما في ذات الخط، وهم يمثلون مجموعة عادت برعاية مصطفى مشهور في الثمانينيات ضداً لتوجه المرشد التلمساني آنذاك، وقد استطاعت القضاء على المخالفين داخل الجماعة لاحقاً. بمثل هذه العقلية الاستحواذية والتآمرية لا يمكن لمصر أن تسير نحو التوافق، فحين يتهم المرشد الفرقاء السياسيين بالفساد والاستبداد والإجرام، فإنه يسدّ أي أفقٍ للحل، وحين لا يرى نائبه الشاطر في المعارضة السياسية سوى الإعاقة فإن مستقبل مصر يصبح على كفّ عفريتٍ. أخيراً، فإن من المثير أن يحذّر الشاطر من سرقة ثانية للثورة، ونحن نعلم من سرق الثورة في المرة الأولى، فهل يعرفه الشاطر؟