يُحكى أن أحد الحكماء كان جالساً في حضرة أحد الخلفاء في فترة من تراجع الحضارة الإسلامية، فالحضارات مهما كانت تمر بفترة صعود يتلوها هبوط، فطلب السلطان من ذلك الحكيم خاطرة تفيده هو والملأ من حوله تلك الفئة من الناس التي تبحث عن مصالحها الشخصية وجعلت التقرب من الخليفة وسيلة لتحقيقها. بدأ الحكيم موعظته بقوله: إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يخرجون من دين الله أفواجاً... هنا نطق كل من كان صامتاً في مجلس الحاكم مصوباً كلام الحكيم بقولهم يدخلون وليس يخرجون ، فأعاد الحكيم خاطرته وقال مرة أخرى يخرجون من دين الله أفواجاً ، تدخل الخليفة بكل جبروته وقال يدخلون في دين الله ما هذا التخريف أيها الحكيم، بكل أدب العلماء تبسم الحكيم للخليفة ومن حوله وقال: في الزمن الذي كان الدين يعني العدل والمساواة وإعطاء كل ذي حق حقه في زمن كان الدين في نصرة المظلوم ومساعدة المقهور وإغاثة الملهوف، في زمن كان الدين يجعل الدنيا مزرعة للآخرة يتسابق فيها الخلق لبذر أعمال الخير ليحصدوا ذلك عند الله، في زمن كان الكافر يجد دولة الإسلام يتلخص فيها معنى الأمان على النفس والمال والعرض والنسل في ذلك الزمن دخل الناس في دين الله أفواجاً. أما في زمن جعل الدين وسيلة لتحقيق أهداف فئة محددة من البشر على حساب غيرهم ممن آمن أو كفر، زمن قتل فيه الناس باسم الدين وسرقت ممتلكاتهم باسم الدين وقرب بعضهم من الخير وأبعد آخرون باسم الدين في زمن ملك البعض مفاتيح الجنة يدخل من شاء فيها ويبعد عنها من لا يرغب فيهم باسم الدين... زمن أعيدت فيه قراءة النصوص القرآنية وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام نصرة للظالم على المظلوم، في زمن أصبح الجهل مرادفاً للتدين والتقشف والبذاءة علامة للتدين في مقابل أن الإسلام جاء ليعلم الجهلة «خذوا زينتكم»، جاء ليقول لهم «من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق»، ونهى عن الفحش والبذاءة، في مثل هذا الزمن، فإن الناس لايرغبون في التدين بل يفرون منه. ومرت على هذه الخاطرة سنوات، ورأينا في أوروبا حركات ثائرة ضد الظلمة من القساوسة الذين جعلوا الدين وسيلة لنصرة الإقطاعيين على الفقراء من الأوروبيين، فكان الإقطاعي يشتري بماله ضمير القس كي يدخله الجنة بصكوك الغفران مهما ظلم أو جار. في تلك الحقبة من التاريخ جاءت صحوة أوروبا التي تلخصت في كلمة علمانية، ففصل الدين عن السياسة، وحصرت الكنيسة في أيام محددة من الأسبوع أو السنة ورفع شعار دع مالله لله ومال قيصر لقيصر. وكأني أرى نفس المقارنة تجري اليوم في دول جعلت من العمائم مصدراً للقرار في شؤون الدنيا والدين، فهم من يعلنون الحرب أو السلام وكلمتهم ليس وراءها ناقد أو مفكر، أو ليسوا هم الحاكمون باسم الله؟ في تلك الدول رأينا الناس ينفرون من كل ما ربط بالدين، فأصبحوا موحدين في ظاهرهم مشركين بأفكارهم، يتمنون الهروب من ضيق الدين إلى سعة الحياة، ومن جور التدين إلى عدل الدنيا. في هذه المجتمعات، أصبح الدين وسيلة لتحقيق أهداف شخصية، بينما الإسلام جاء ليبني حضارة عاش الناس فيها في رغد من الدنيا وقلوبهم مرتبطة بالآخرة... حضارة قربت العلماء ورفعت مكانتهم عن البلهاء. حضارة العدل والمساواة، التي دخل الناس بسببها في دين الله أفواجاً.