التحولات التي تشهدها المجتمعات العربية تشير إلى أن الدوافع التي أسهمت في إبرازها شكلت جذوراً تمتد إلى سنوات مضت، فصعود التيارات الإسلامية على حساب الحالة «التحديثية» يشير في بعض جوانبه إلى تراجع عمليات التحديث التي مر بها العرب خلال قرابة قرن من الزمان. على المستوى الفكري التنويري، لم يشهد العالم العربي، تجربة واضحة ومحددة للتحديث، وحتى تلك المحاولات الجزئية للتحديث التي بزغت في بعض الدول لم يكتب لها النجاح. وعلى المستوى السياسي كانت «الديمقراطية»، هي اللافتة التي رفُعت باسم التحديث لكن التجربة العربية لم تفرز حالة ناجحة يمكن القياس عليها، إذ ليست المشكلة في المبادئ والأفكار، بل في الممارسات والتطبيق، وفرض النظم من أي نوع سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية، لا يمكن أن تحقق النجاح مالم يتعلم الناس كيف يعيشون مع بعضهم البعض بسلام وتسامح، وأن تكون هذه النظم ملائمة لمجتمعاتهم وظروفها الخاصة، لا أن يتم نقل ما عند الآخرين من التجارب الناجحة وفرضه على الآخرين، فما هو ناحج في مجتمع ليس بالضرورة يكون ناجحاً في مجتمع آخر، إذ أن النجاح والفشل هما نتاج البيئة قبل أن يكونا بسبب الفكرة أو المبدأ. والواقع أن الديمقراطية في العالم العربي مازالت تقدم النموذج الأمثل لـ «سوء التطبيق»، لهذا المفهوم للعمل السياسي، وقد أسهم الصدام بين محاولة فرض «الديمقراطية المشوهة» كبديل عن «الشورى» الإسلامية التي تنادي بها كثير من التيارات السياسية الإسلامية إلى تحول كثير من الناس عن الديمقراطية، والالتفاف حول الأطروحات التي تحقق لهم رغبة تجمع بين «نبل» الوسيلة والوازع الديني، بل إن كثيراً من التيارات الإسلامية بدأت بطرح تصورها لتطبيق الديمقراطية، ولا تختلف في ذلك عن أي مما تطرحه التيارات السياسية الأخرى، فاستطاعت أن تكسب مساحة من العمل الجماهيري لاستنادها على الرؤية الدينية في طرحها مستثمرة سوء تطبيق الديمقراطية كمدخل لطرح بديلها. أما على المستوى الاجتماعي، فإن مشروعات التحديث العربية لم تتجاوز المظاهر دون العمل على تحديث الأفكار والرؤى الاجتماعية، التي يتم على أساسها التحول الاجتماعي، فدفعت كثيراً من العرب للإنكفاء نحو الداخل خوفاً من «مخاطر» الخارج، إذ يشعر المواطن العربي أنه مستهدف في قيمه وعاداته وتقاليده من خلال ما يسميه بـ «الغزو» الثقافي أو الفكري أو الاجتماعي، وتمثل وسائل الإعلام منطلقاً لهذا الخوف، إذ يعتقد كثير من العرب أن بعض مما تقدمه هذه الوسائل متصادم مع القيم التي يؤمن بها. ولذا يلجأ للبحث عن البدائل التي تتناسب مع قيمه ومعتقداته، وهذا ما يبرر ظاهرة انتشار ما يسمى بـ «البدائل» الإعلامية الإسلامية كالقنوات الفضائية، والإذاعات ومواقع شبكة الإنترنت والوسائط التكنولوجية، إضافة إلى رفد المكتبة بالعديد من الكتب سواء كانت تراثية أم حديثة تتحدث عن الإسلام وقيمه ومبادئه، إضافة إلى العبادات والشعائر الإسلامية. وقد عزز من هذه المواجهة انتشار وسائل الإعلام الخاصة التي كانت أكثر «انفتاحاً» في تعاملها مع القيم الاجتماعية والدينية، وقد أدى هذا الانكفاء إلى بروز ظاهرة الأصوليات في العالم العربي بمختلف مسمياتها. فقد كانت عملية التحديث أو التنوير التي مر بها العالم العربي تمثل في مخيلة المواطن العربي فكرة «التصادم» مع الدين، وقد ساند ذلك بعض الكتابات والمؤلفات التي كانت تعالج القضايا الدينية بروية تتجاوز الرؤية النقدية للفكرة إلى نقد الدين ذاته، مما أوجد حالة من الصدام بين ما يمكن تسميته بـ «القوى المحافظة» والقوى «التنويرية»، التي عُلقت على شماعتها كل التجاوزات التي ترتكب في هذه المواجهة. كما أن القوى التنويرية والتحديثية العربية لم تفرق بين فكرة «التحديث» والممارسات التي يمكن أن تتم تحت هذه اللافتة، فترسخ في مخيلة كثير من العرب أن التحديث أو التنوير هما ضد الدين، فانكفأ البعض إلى «الدين» لأنه أكثر ترسخاً وتأثيراً في حياته، فخسر العالم العربي قوى يمكن أن تسهم في إيجاد تيار تنويري يقوم بعملية التحديث في المجال الثقافي الذي هو المدخل لأي عملية تحديث. من الضروري لأي عملية تحديث أن تتم إعادة النظر في مكوناتها بين فترة وأخرى بما يتلاءم مع المتغيرات السياسية والثقافية والاجتماعية، فما كان صالحاً قبل خمسين سنة ليس بالضرورة أن يكون مناسباً للقرن الحادي والعشرين، خاصة في عصر تعددت فيه أساليب الحياة وتطورت بما يتلاءم مع التطور التكنولوجي التطبيقي والتطور الفكري البشري بحيث لم تعد أساليب الماضي صالحة للتعامل مع الحاضر. عملية التحديث حاجة إنسانية، وبدونها تتوقف الحياة البشرية عن التقدم وتستدعي الماضي في كل شأن من شؤون حياتها، وتلك معضلة يعيشها العرب على الرغم من أنهم في القرن الحادي والعشرين.