انفرد قراء «النجف الأشرف» في العراق، يقول د. محمد النويني، بظاهرتين: الأولى حب الكتب والمكتبات، وقراءة وتأسيس مكتبات شخصية وعامة، حتى قيل عنهم إنهم «صرعى الكتب والمكتبات»، وتداولوا أقوالاً مثل «إن زكاة الكتاب إعارته»، أو «إن زكاة الكتاب رعايته»، لمن كان يضن بكتبه ولا يعيرها. وقد قيل في ذم إعارة الكتاب ما قيل، مثل «من يعير كتبه فهو غبي، ومن يعيد الكتاب إليه أغبى منه»! ويقول د. النويني، إن المؤرخ جرجي زيدان يشير إلى أن النجفيين «قد خصصوا في المدينة سوقاً خاصاً لبيع وعرض الكتب عن طريق المزايدة، ويقام في كل يوم خميس وجمعة». دخلت الطباعة مدينة النجف متأخرة أسوة ببقية العراق الذي كان يعاني من التخلف الشديد وعدم اهتمام العثمانيين بنشر الثقافة وادخال أسباب الحضارة الحديثة. ويقال إن أول مطبعة حجرية عرفتها العراق كان موضعها في الكاظمية قرب بغداد، وقامت بطباعة كتاب «دوحة الوزراء في تاريخ وقائع الزوراء» عام 1821 على يد «ميرزا محمد باقر التفليس». غير أنه يقال كذلك إن أهمية هذا الكتاب طبع بأمر من داود باشا في بغداد عام 1830. ويقول المؤرخ العراقي «رفائيل بطي» إنه كانت هناك صحيفة عراقية سبقت «الوقائع المصرية» في الصدور تسمى «جورنال العراق» أسسها داود باشا سنة 1816، وكانت تطبع في مطبعة حجرية باللغتين العربية والتركية. ومع أنه لم يعثر على أية نسخة من نسخ تلك الصحيفة، فإن بعض الفرنجة الذين زاروا العراق في تلك الحقبة ذكروها في كتبهم التي ألفوها عن رحلاتهم. ويضيف د. صابات أنه بعد الفراغ من طباعة كتاب «دوحة الوزراء»، توقفت المطبعة عن كل إنتاج، وظل العراق بلا مطبعة حتى سنة 1856، معتمداً على الكتب الواردة من اسطنبول والقاهرة، إلى أن فكر أحد الفرس في إنشاء مطبعة حجرية في مدينة كربلاء. وأول كتاب صدر عنها يحمل تاريخ 1856، وأغلب مطبوعات تلك المطبعة كان يختص بأعمال تجارية وكتب أدعية ورسائل تتعلق بزيارة مراقد أهل البيت. وقد توقفت المطبعة نهائياً قبيل الحرب العالمية الأولى. وأكبر الظن، في تخمين د. صابات، «أنها لم تستطع منافسة مطابع الحروف التي كثر عددها في بغداد مطلع القرن العشرين». وكانت الموصل أول مدن العراق في مجال الطباعة بالحروف المتفرقة، وقد أتى بها الآباء الدومنيكان سنة 1856. وكانت مطبعتهم في البداية حجرية ثم ابتاعوا فيما بعد مطبعة حروف كاملة. وقد امتازت «المطبعة الدومنكية» هذه بأنها كانت أول مطبعة في العراق ينشأ فيها مسبك لصب الحروف. ثم أضيف إليها قسم جديد خاص بتجليد الكتب وتذهيبها على الطريقة الأوروبية الحديثة. وكان العراقيون قبل ذلك يجلدون كتبهم على الطريقة القديمة. ومن المعروف أن الطباعة قد تأخرت عموماً في العالم العربي بسبب فتاوى تحريمها من قبل رجال الدين ومفتي اسطنبول، وبخاصة طباعة الكتب الدينية، ولهذا لم تظهر أولى مطابع الدولة العثمانية إلا في عام 1816، وفي بولاق بمصر، عام 1822. وقد دخلت الطباعة النجف الأشرف بعد كربلاء. ويقول الراحل قاسم محمد الرجب، صاحب «مكتبة المثنى» أشهر مكتبات بغداد في القرن العشرين، إن المخطوطات تصل إلى بغداد من كربلاء والنجف الأشرف، «وهي أجود ما يُعرض من المخطوطات وأندره». ويضيف الرجب في مذكراته عن تجاربه في عالم النشر وبيع الكتب النادرة، أن «نعمان الأعظمي» سافر ذات مرة إلى إيران فاشترى بعض المخطوطات، ولما عاد بها احتجزت منه في الحدود، ولم يتمكن من إخراجها وإعادتها، ولكنه عند رجوعه أخبر أحمد حامد الصراف المحامي بما وقع له ليتوسط له لدى السلطات الإيرانية بما له من علاقات ودية. فاشترط إن نجح مسعاه أن يأخذ إحداها فوافق نعمان. ونجح الصراف حيث استخلص الكتب كلها، واختار من المخطوطات «ديوان حافظ الشيرازي»، وكان محلّى بالذهب ومزوقاً، «إلا أنه بعد أن أشبع رغبته منه عاد فباعه إليه ثانية بمبلغ لا بأس به». ويشتكي الرجب من أن البعض يأتي إلى السوق بمخطوطة لبيعها وقد لفّها بمترين من القماش، وأدخلها بعد ذلك في كيس، ثم يمضي وقتاً طويلاً في وصف ندرتها، «ولكن عند فتح هذا الكنز نجد أن المخطوطة لا تساوي درهماً واحداً». ويضيف الرجب: وتصل بعض المخطوطات من مدينة الموصل. ولكنها ليست ذات قيمة، فكلها مخطوطات كتبت في العصور المتأخرة، وأكثرها يبحث في الروحانيات والسحر و«الزايرْجه». وهذه مجموعة من الطرف تستخدم لمعرفة الإجابة الصحيحة على سؤال ما، وتعتمد هذه الطرق بوجه عام على تقدير قوة الحروف بحسب مراتبها وعلاقتها بالأرقام، وهي داخلة في نطاق علم الحفر أو علم خواص الحروف. وبعض المخطوطات الموصلية كانت في السيمياء والطب والفلك، ولم أر لها أهمية أو قيمة علمية. وكان أكثرها يقتنيه المحامي عباس العزاوي، المؤرخ الرائد في كتابه تاريخ العراق في القرون المتأخرة ومنها «تاريخ العراق بين احتلالين» في 8 مجلدات، و«تاريخ العشائر العراقية»، وكانت له مكتبة اشتهرت بنفائس مطبوعاتها ومخطوطاتها، وقد توفي عام 1971 عن أكثر من ثمانين عاماً. وقد زار السوق «محمد أمين الخانجي»، العالم بالمخطوطات وأشهر كُتُبي بالعالم الإسلامي، فاقتنى الكثير من الكتب المهمة وعاد بها إلى مصر. وكان يستغرب كثيراً لخلو العراق من المخطوطات، وكان يتصور أنه سوف يرجع بآلاف من المخطوطات التي ربما وجدها في البيوت والطرقات لما اشتهرت به بغداد من العلم والأدب والحضارة، ناسياً ما مرّ بالعراق من كوارث، حيث «يُعد العراق أفقر بلاد العالم قاطبة بالمخطوطات إذا ما قيس بمصر واسطنبول ودمشق والهند». وكذلك عندما زارنا الشيخ خليل الخالدي، يضيف الرجب في مذكراته، وهو -أي الخالدي- صاحب أكبر خزانة للكتب في القدس الشريف، وهي الخزانة الخالدية، وكان عائداً من الأندلس والمغرب بعد رحلة طويلة، فاندهش عندما لم يجد في بغداد ما يستحق من الذكر من المخطوطات، فعاد وهو غير مصدق، وكان ذلك في أوائل عام 1935. ويضيف الرجب أن الكتب الخطية بيع أكثرها خارج العراق. وكان أكثر من يشتريها من الأجانب أحد يهود العراق المهاجرين إلى أميركا، واسمه «اس. يهودا». وقد جمع ما يقارب العشرين ألف مخطوطة من مختلف أنحاء العالم ولا سيما من العراق، وكان وسطاؤه في الشراء أشخاصاً كثيرين أشهرهم محمد أمين الخانجي. وقد باع «أس. يهودا» هذه المخطوطات بعد ذلك لمكتبة جامعة برنستون بالولايات المتحدة، وحفظت بمكان أمين، وعُني بها بعد فهرستها وفرزها، ويمكن لطالبها أن يطلب تصوير أية مخطوطة منها. خليل علي حيدر كاتب ومفكر - الكويت