لا شك أن إحدى القرارات المهمة التي سيكون على أوباما اتخاذها في ولايته الثانية هي اختيار الشخص المناسب لتولي وزارة الخارجية، لاسيما وأن هذا المنصب يعد الأرقى والأكثر وجاهة في النظام السياسي الأميركي بعد الرئيس؛ وتأتي الحاجة إلى وزير جديد للخارجية، بعد إعلان هيلاري كلينتون في أكثر من مناسبة أنها لن تستكمل الولاية الثانية مع أوباما وأنها ستقدم استقالتها خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة، وإن كانت لم تحدد بعد التوقيت الذي ستغادر فيه الإدارة الأميركية، بعد أربع سنوات قضتها على رأس الدبلوماسية الأميركية. هذه الفترة تميزت فيها كلينتون، بشهادة جميع المراقبين، بعملها الجاد وتفانيها المتواصل إلى جانب الرئيس وبقية فريق وزارة الخارجي، الأمر الذي أكسبها احتراماً وتقديراً واسعين من قبل الجميع، كما أنه مشهود لها بالكفاءة في معالجة القضايا المعقدة، ما جعلها من أنجح وزراء الخارجية في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة، وهي لذلك تمتعت بثقة كبيرة من أوباما وبقية زملائها في الإدارة، ونجحت في نسج علاقات جيدة طبعها التعاون والتنسيق مع رجلين قويين في الإدارة تعاقبا على وزارة الدفاع، هما روبرت جيتس وليون بانيتا. فقد درجت العادة في بعض الإدارات أن تكون العلاقة متشنجة بين وزارتي الدفاع والخارجية. كما اتضح خلال فترة الرئيس بوش الابن، ليخلق ذلك نوعاً من الانقسام في عمل الإدارة. لكن مع هيلاري كانت العلاقة سلسلة بين الطرفين. وعلى مدى السنوات التي قضتها في المنصب برزت كلينتون كإحدى أشد المدافعات عن حقوق المرأة في العالم، كما أيدت استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية لإطاحة نظام القذافي في ليبيا. واليوم، وبعد إعلان هيلاري نيتها مغادرة البيت الأبيض، تحتدم التكهنات حول من سيخلفها في منصب وزارة الخارجية، بحيث تتداول دوائر القرار عدداً من الأسماء أهمها سوزان رايس، مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة. لكن اسم رايس يثير جدلاً واسعاً في واشنطن؛ فهي رغم قربها من أوباما، إلا أنها أصبحت محط انتقادات الجمهوريين لطريقة تعاطيها مع الهجوم الذي استهدف القنصلية الأميركية في بنغازي وأسفر في 11 سبتمبر الماضي، عن مقتل السفير كريستوفر ستيفنز ومعه ثلاثة من رفاقه. فقد ظهرت رايس على شاشات التلفزيون، وشاركت في البرامج الحوارية في محاولة لتوضيح ما جرى، لكن سيتبين لاحقاً أن روايتها للأحداث كانت خاطئة، وهو ما عرّضها لهجوم قاس من قبل خصوم الإدارة الحالية من الجمهوريين، حتى وإن كانت غير مخطئة في ترديد معلومات حصلت عليها في من الاستخبارات. وفيما عدا الانتقادات التي طاردتها على مدى الفترة الأخيرة، تبقى سوزان رايس من العناصر الكفأة التي تتميز بالذكاء والعمل الجاد، وهي أيضاً معروفة بطبعها الحاد واستماتتها في الدفاع عن مواقفها، وليس معروفاً ما إذا كان أوباما سيمضي قدماً في اختيارها وزيرةً للخارجية، رغم تحفظ الجمهوريين. أما الاسم الآخر الذي يروج بقوة في الأوساط السياسية، فيتمثل في رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، جون كيري، لاسيما وأنه صديق للسيناتورين "ماكين" و"جراهام" من الجمهوريين الذين يعارضون تعيين رايس على رأس الخارجية. بيد أن هناك أيضاً عاملاً سياسياً ربما يدفع الجمهوريين إلى تحبيذ كيري كوزير للخارجية، ذلك أنه في حال اختياره سيصبح مقعده كسيناتور عن ولاية مساتشوستس شاغراً، وهي الولاية التي خسر الجمهوريون فيها مقعداً آخر كان يشغله "جون براون" الذي مني بهزيمة منكرة صدمت الجمهوريين، بعدما صعدت الليبرالية إليزابيث وورن لتخطف منه الكرسي، لذا يمنّي الجمهوريون النفس بعودة "براون" الذي ما زال يحتفظ ببعض الشعبية في الولاية في حال صعد كيري إلى وزارة الخارجية، ومن ثم تقليص الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ. هذا علماً بأن فوز براون بالمقعد الثاني للولاية ليس مؤكداً بالنظر إلى منافسه الآخر، إدوارد ماركي المنتمي إلى الحزب الديمقراطي الذي يعتزم المنافسة على المقعد. والمشكلة مع رايس التي قد تتراجع حظوظها في تولي منصب وزيرة الخارجية، لكثرة المنتقدين لها، ذلك أن معارضيها يمتدون أيضاً إلى داخل المدرسة الواقعية في السياسة الخارجية، بحيث يعيب هؤلاء على رايس، وكذلك هيلاري و"سامانثا باوبر" (مساعدة في البيت الأبيض)، بأنهن كن وراء دفع أوباما إلى المشاركة في الحرب ضد ليبيا. ويرى الواقعيون أن الولايات المتحدة خاضت ما يكفي من الحروب في الشرق الأوسط، محبذين الاعتماد أكثر على الدبلوماسية لحل المشكلات العالمية، وبخاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا. ومهما يكن من أمر، فإن الشخص الذي سيتولى وزارة الخارجية سيجد أمامه العديد من التحديات؛ منها ما هو مرتبط بالأزمة المالية في أوروبا والولايات المتحدة نفسها، ومنها ما يتصل بالقضايا التقليدية مثل العلاقة مع روسيا والصين، بالإضافة إلى المشاكل المستمرة في الشرق الأوسط التي ما زلت تتطلب اهتماماً أميركياً خاصاً، والأكثر من ذلك ما تشهده الساحة الفلسطينية حالياً من مخاض بعد عودة القضية للظهور مجدداً على الساحة الدولية، ناهيك عما يجري في سوريا من تطورات متلاحقة يبدو أنها على وشك الوصول إلى الذروة. ثم إن هناك الملف النووي الإيراني وطريقة التعامل معه. هذه التحديات جميعها تستدعي انخراطاً فعالاً من أوباما في القضايا الدولية لمعالجتها والتقليل من خطورتها، وهو ما يتطلب بدوره القدرة على العمل مع فريق منسجم للأمن القومي بما فيه وزير الخارجية المقبل.