كثيرون منّا يعرفون العبارة الشهيرة التي قالتها أم أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس له حين نظر بعينين دامعتين صوب غرناطة، مودعاً إياها للمرة الأخيرة من فوق سطح سفينته المبحرة به «أبكِ كالنساء على ملك لم تصنهُ كالرجال». رواية (المخطوط القرمزي) كانت قد حصلت على جائزة (بلانتيا) عام 1990 وهي من أهم الجوائز الأدبية في إسبانيا، وبيعت منها أكثر من مليون نسخة منذ طباعتها لحد الآن. قد يكون حديثي جاء متأخراً عن هذه الرواية العظيمة، بالرغم من أنني قرأتها منذ عدة سنوات، إلا أنني أحببتُ أن يُشاركني قرائّي متعة قراءتها. الرواية من تأليف الروائي والشاعر الإسباني (أنطونيو غالا) الذي تدور معظم كتاباته حول علاقة العرب والمسلمين بإسبانيا وبتاريخ الأندلس الفردوس المفقود كما يحب البعض نعته. ويقول «غالا» في مقدمة الرواية إنه رأى هذا المخطوط القرمزي الذي يتضمن مذكرات أبي عبد الله الصغير في مكتبة معروفة بمدينة الرباط بالمغرب، وأدهشه الخط الأنيق المكتوبة به السطور، رغم تشككه فيما إذا ما كان أبو عبد الله الصغير قد كتبها بنفسه أو أنه أملى مذكراته على واحد من أمنائه! تُعيدك الرواية إلى خمسة قرون مضت. وتُشعرك وأنت تُقلّب صفحاتها بأنك تعيش في ربوع الأندلس. وتخرج منك زفرات حارة ممزوجة بالحسرة على تناحر ملوكها وحكّامها الذي أدّى لضياع حكمهم وطردهم أذلاء منها. لاعناً في سرّك حجم الدسائس والمكائد التي كانت تُديرها البطانة من خلف الأستار لتحظى بالامتيازات دون سواها! يكتشف القارئ أن شهوة السلطة ليست حكراً على الرجال، بل كانت المرأة تُمارس هي الأخرى هذا الدور بمهارة! وإذا كان الرجل يسعى بمجهوداته الشخصيّة للاستحواذ على السلطة، فإن المرأة تسعى إليها من خلال الرجل مُسخرة سلاح فتنتها ودهائها وذكائها الذي لا يقدر على مواجهته أقوى الرجال. وقد ذكر أبو عبد الله الصغير في مذكراته عن احتدام الصراع بين والدته، وبين ثريا المحظية المسيحية التي نجحت في أن تدفع أباه إلى طرد أمه من قصر الحمراء بعد أن أسرته بجمالها الأخاذ، قبل أن يعقد قرانه عليها ويمنحها لقب السلطانة. الرواية تحتوي على مشاهد حيّة تفطر الأفئدة. والمرء ينقبض قلبه وهو يقرأ وقائع أسر أبي عبد الله الصغير في أيدي جنود الملك فرناندو. وكيف أجبره سجّانوه على أن يُطل من شرفة سجنه بالبرج على الساحة كي يراه الجمهور المتجمّع والمتلهّف لرؤية الملك المسلم. ظهر لهم وهو مثقل بالسلاسل في قدميه، ومحاط عنقه بطوق من الحديد كأنه تذكار صيد كما يقول! يقول في فصل من فصول مذكراته «كان في غرناطة مملكتان، يفصل بينهما نهر دارة، وكان الناس يتشاجرون في الشوارع والميادين والساحات الصغيرة يوميّاً، كل حزب يتطلع إلى الإمساك بالمدينة والانقضاض على الآخر». كأن التاريخ يتكرر اليوم بصور متشابهة مع تغيّر الزمان والمكان والأشخاص الذين يديرون المعركة! خرج أبو عبد الله الصغير من غرناطة متجهاً إلى مدينة فاس بالمغرب عند إكماله الواحدة والثلاثين من العمر. ويحكي لحظات موت أمه بعيداً عن أرضها التي أحبتها. فكان يُخبر كل واحد يلتقيه عن كلمات أمه في لحظاتها الأخيرة «عندما تعود لتحكم في الحمراء، اقبرني في الروضة مع السلاطين». لكنه يعترف بأن لسانها لم ينطق بهذه الكلمات ولكنه رآها في عينيها. مختتماً مذكراته بالقول «أردتُ أن أعتذر لأمي عن كل الخيبات التي تسببتُ لها بها على امتداد حياتي. أنني أذعنتُ للأحداث منذ طفولتي دون أن أواجهها بشجاعة». ما أقرب حاضرنا المؤلم بذلك الماضي البعيد!