ليست هذه هي المرة الأولى التي تحدث فيها تهدئة بين إسرائيل وحركة «حماس» منذ سيطرتها على قطاع غزة. ولم تصمد أية تهدئة سابقة رغم التزام «حماس» التي وضعت تدعيم سلطتها المنفردة في قطاع غزة وضمان استمرارها فوق كل اعتبار، فصارت المقاومة لديها منذ 2005 شعاراً على الطريقة السورية المستمرة منذ سبعينيات القرن الماضي. فلا يكفي التزام «حماس» بالتهدئة لضمان استمرارها لسببين. أولهما أنها لم تستطع حتى الآن فرض سيطرة كاملة على كل شبر في أرض غزة، أو إلزام جماعات وحركات فلسطينية أخرى في القطاع بموقفها وخصوصاً بعد أن أصبح لما يُعرف بالسلفية الجهادية وجود فيه وامتداد في سيناء. فإذا لم تلتزم هذه الجماعات أو بعضها بالاتفاق الجديد للتهدئة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى انهياره حين تقرر إحداها استئناف إطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل. وليس معروفاً بعد على وجه التحديد ما إذا كانت الصواريخ الأبعد مدى التي ظهرت للمرة الأولى في الرد على الاعتداءات الإسرائيلية التي حدثت في إطار عملية «عمود السحاب» موجودة لدى قوات «كتائب القسام» التابعة لحركة «حماس» وحدها أم أن بعض الجماعات الأخرى حصلت على شيء منها. وتشمل هذه الأسلحة صواريخ «سام » و«جراد» يُرجح وصولها إلى قطاع غزة من ليبيا. وإذا صح هذا التقدير، فهو يعني إمكان حصول أكثر من جماعة في «غزة» على هذه الصواريخ لأن بعض الليبيين الذين استولوا عليها من مخازن أسلحة نظام القذافي يبيعونها لمن يدفع. كما أن وجود امتداد في سيناء لبعض الجماعات ذات التوجهات السلفية الجهادية في غزة يبعث على الاعتقاد بإمكان تهريب مثل هذه الصواريخ إليها عبر الحدود المصرية لأن سيطرة حكومة «حماس» على مخارج الأنفاق المحفورة عبر هذه الحدود ليست مطلقة كما هي الحال بالنسبة لهيمنتها على القطاع نفسه. أما السبب الثاني، والأكثر أهمية، والذي قد يجعل اتفاق التهدئة الجديد بين إسرائيل و«حماس» قابلاً للانهيار فيتعلق بنوايا نخبة الدولة العبرية وعلى رأسهم نتنياهو المرجح أن يبقى رئيساً للحكومة بعد الانتخابات المبكرة في 23 يناير المقبل. فقد كان قرار نتنياهو بشن عملية «عمود السحاب» مفاجئاً بسبب توقيته الذي يثير سؤالاً محورياً عن مغزاه والهدف الحقيقي من ورائه. فليس طبيعياً، وقد لا يكون منطقياً، أن يقدم على عملية عسكرية يصعب توقع نتائجها قبيل انتخابات وشيكة وفي ذروة الحملة المتعلقة بها. وقد يقول قائل هنا إن نتنياهو أراد توجيه رسالة للناخبين الذين سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب كينست جديد بعد أسابيع قليلة أن خطر «الإرهاب» الفلسطيني لايزال مستمراً وأنه لا يوجد بديل عنه لقيادة هذه الحكومة في الفترة القادمة. غير أنه كان بإمكانه أن يوجه هذه الرسالة بطريقة أكثر إقناعاً للناخبين، ولا تنطوي في الوقت نفسه على خطر شن عملية عسكرية قد تفشل أو ربما لا تحقق نتائج كافية فيصبح أثرها عكسياً. فقد كان باستطاعته أن يستغل الصواريخ التي أُطلقت من قطاع غزة ليوجه الرسالة التي يريدها عبر مطالبة الناخبين بمنحه تفويضاً أقوى من ذي قبل لإنهاء هذا الخطر بُعيد الانتخابات. لذلك يصعب تصور أن قرار شن العملية العسكرية ضد القطاع استهدف توجيه رسالة انتخابية لا يمكن ضمان أن تفعل الفعل الذي يريده منها أو استبعاد أن يكون أثرها عكسياً. وقد ظهر بالفعل أن النتيجة العكسية لهذه العملية كانت هي الأقرب قبل إعلان اتفاق التهدئة الذي أنقذ نتنياهو من محنة انتخابية كان ممكناً أن تواجهه لو أن العملية استمرت وشملت تدخلاً برياً. فليس ممكناً إقناع الرأي العام الإسرائيلي بأن عملية عسكرية ضد قطاع غزة نجحت بدون تقويض البنية العسكرية الأساسية لـ«حماس» والجماعات الأخرى والقضاء على معظم المخزون الصاروخي لديها بصفة خاصة. وكان واضحاً أن عملية «عمود السحاب» لا يمكن أن تحقق هذا الهدف، وأن القدرات الاستخباراتية الإسرائيلية لا تزال غير قادرة على تقدير مستوى القدرة العسكرية لدى «حماس» وغيرها من الجماعات في القطاع. فقد فوجئت إسرائيل بالأنواع الجديدة من الصواريخ التي لم تكن موجودة في غزة عندما شنت عدوانها السابق قبل نحو أربع سنوات. ولذلك، ورغم أن اتفاق التهدئة ربما أنقذ نتنياهو من أثر سلبي لهذه العملية على الانتخابات الوشيكة مثلما حمى القطاع من تدمير واسع النطاق، فهو يتعرض لانتقادات حادة في الإعلام الإسرائيلي. لذلك، وإذا استبعدنا أن يكون هدف نتنياهو من شن هذه العملية انتخابياً، فقد يكون غرضه منها هو التمهيد لعملية أخرى ربما يعتقد أنها ستكون حاسمة في تقويض البنية العسكرية في القطاع. فثمة شواهد تفيد أن الفائدة الأولى التي حققتها إسرائيل من هذه العملية هي معرفة ما لم يكن معلوماً لها بشأن القدرات العسكرية في قطاع غزة وأنواع الصواريخ الجديدة التي أصبحت في حوزة «حماس» وغيرها من الجماعات، وتدمير جزء من المخزون الصاروخى وإطلاق جزء آخر منه، فضلاً عن اختبار الجهاز الجديد المضاد للصواريخ والمعروف باسم «القبة الحديدية» لتطويره. ويمكن أن تكون هذه العملية مدخلاً لجهود استخباراتية تهدف إلى الحصول على مزيد من المعلومات اللازمة لما يمكن أن يكون عملية أكثر فاعلية في وقت ما بعد انتخابات الكنيست المقبلة، قبل الإقدام على عملية قادمة أكثر حسماً. وهذا هو ما تسعى إليه المؤسسة السياسية والعسكرية الإسرائيلية في مجملها ضمن استعدادها للهجوم الذي تسعى إلى إقناع واشنطن به لتدمير القدرة النووية الإيرانية. فأحد أهم جوانب الخلاف بين تل أبيب وواشنطن بشأن هذا الهجوم هو مخاوف واشنطن من أن يؤدي إلى حرب إقليمية إذا انضمت سوريا و«حماس» و«حزب الله» إلى إيران في الرد عليه. لذلك تتطلع إسرائيل إلى إضعاف قدرة «حماس» أولاً لأنها الحلقة التي تعتبرها الأضعف فيما تسميه «المنظومة الإيرانية»، بينما تراهن على أن يمتنع الأسد عن الانضمام إلى طهران لتقديم دليل على أن استمرار نظامه أفضل من أي تغيير يفتح باب المجهول. وهكذا يبدو مصير اتفاق التهدئة الجديد متوقفاً على ما تخطط له إسرائيل من ناحية، وعلى سلوك الجماعات الفلسطينية التي لا تلتزم بقرارات «حماس». والأمران مرتبطان، أو يسهل ربطهما حيث تستطيع إسرائيل استغلال أي خرق للاتفاق من جانب إحدى الجماعات الفلسطينية، مهما كان صغيراً، لشن العملية الأكثر حسماً التي تتطلع إليها. لذلك سيظل قطاع غزة على سطح صفيح ساخن ما بقيت المنطقة في حال اضطراب آخذ في الازدياد يوماً بعد آخر.