تدخل أميركا مرحلة جديدة من التقشف الممتد لم يعد ممكناً معها الاستمرار في نفس النهج من الاستحقاقات الاجتماعية التي التزم بها الجيل السابق واستفاد منها بسبب الظروف الاقتصادية والديموغرافية المستجدة، وأيضاً بسبب التضخم الكبير في النفقات الصحية وكلفة الرعاية. ومع أنه لا يمكن إلقاء اللوم على طرف من الأطراف بعينه، إلا أن الأهم هو حجم المشكلة وخطورتها، فمن دون السيطرة على القروض والاستدانة لن يتمكن أبناؤنا والأجيال القادمة من العيش في نفس مستوى الجيل الحالي، أو الذي سبقه؛ هذا التحول الاقتصادي الذي تشهده أميركا أثر أيضاً على طبيعة النقاش السياسي وأولوياته بعد التركيز الراهن على كيفية توزيع الأعباء المؤلمة للخروج من أزمة العجز ومن ورائها معضلة الإنفاق الفيدرالي، فقد درجت العادة في السابق أن يتم التوافق بين الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي» لإقرار خطة الموازنة على أساس من الاستفادة المتبادلة بحيث يحصل كل حزب على ما يريده: خفض الضرائب بالنسبة لـ«الجمهوريين» ورفع الإنفاق بالنسبة لـ«الديمقراطيين»، وفي نهاية المطاف تستمر الأمور دون مشاكل بفضل القروض لتمويل النفقات. لكن اليوم يعني التوافق بين الحزبين خسارة لكليهما من خلال رفع الضرائب وفي الوقت نفسه خفض الإنفاق العام، ولا أحد من الحزبين أيضاً سيستفيد سياسياً من الخطوة، وهو ما يعني أن مخزوننا المالي بدأ في النفاد، كما أن سياسة التقشف أينما كانت تغذي الانقسامات بين النخب السياسية المختلفة، وتولد احتقاناً اجتماعياً لدى الرأي العام. ففي الوقت الذي يرى فيه طرف ما أن بعض إجراءات التقشف لا مبرر لها، يصر البعض الآخر على أنها غير كافية ويتعين إقرار المزيد منها. وفي هذه الأجواء يصبح من السهل تأليب شريحة على أخرى سواء في النخبة السياسية، أو في المجتمع بصفة عامة، وهكذا يتم الحديث مثلاً عن نسبة 1 في المئة من الشعب الأميركي التي تستأثر لوحدها بحوالي 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، كما ينصرف التركيز إلى نسبة 37 في المئة من الضرائب التي يدفعونها... وما إذا كانت يتعين رفع الرقم إلى 40 في المئة، أو أكثر، ثم تتناسل الأسئلة من الجانب الآخر حول الطبقة الوسطى وكم يتعين إثقال كاهلها بالضرائب للحد من العجز، هذا بالإضافة إلى ما يثيره النقاش حول التقشف من صراع بين الأجيال. ففي عام 1970 كانت حصة النفقات الحكومية على الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي لا تتعدى 20 في المئة من الموازنة الفيدرالية، لكنها بحلول 2030 ستقفز المصاريف إلى 50 في المئة من نسبة الموازنة، فهل من المعقول والمنصف أن تستمر الشرائح الشابة والفقيرة في المجتمع بدفع الامتيازات الاجتماعية لمن هم أكبر سناً وأغنى؟ وفي خضم هذه التساؤلات يستغرب المرء عندما يرى حجم التنافس بين السياسيين لتولي مناصب تشريعية، رغم حجم المشاكل والانتظارات، لكن في المقابل تمثل الأوقات الصعبة والسنوات العجاف فرصة لاختبار من هم القادة الحقيقيون المستعدون لتولي المسؤولية في أحلك الفترات، هؤلاء القادة يقتسمون عدداً من المواصفات منها قدرتهم على وضع الأمور في حجمها الحقيقي وعدم المبالغة. فالقادة الحقيقيون يركزون عادة على الأشياء المهمة، وفي حالتنا هذه ليست المشكلة في النفقات العامة في حد ذاتها، بل في البرامج الاجتماعية المكلفة واستحالة الاستمرار في نفس الطريق، لذا يمثل التركيز على إلغاء البطاقات التموينية للفقراء، أو إغراق الأغنياء بالضرائب مجرد صراعات أيديولوجية لا تلامس المشاكل المالية الحقيقية. وبالإضافة إلى عدم المبالغة، هناك صفة أخرى تتمثل في الاهتمام بالصالح العام، فإذا كانت جماعات الضغط الخاصة وأصحاب النفوذ السياسي يحصلون دائماً على ما يريدون من السياسيين، فإن النتيجة تكون دغدغة مشاعر الرأي العام بدلاً من توزيع الأعباء حسب الاستحقاق والأولوية، لذا يتعين على السياسيين في مراحل مختلفة مقاومة الضغوط والنظر بتجرد إلى ما فيه مصلحة الوطن. أما الصفة الثالثة، فهي التحلي بشعور أخلاقي، أو إنساني، بحيث يجب التفريق دائماً عند تقليص النفقات بين برامح ذات بعد إنساني مثل محاربة الملاريا لدى الأطفال، وبين بناء طريق سريعة، هذه الصفات تفرض نفسها اليوم ونحن نراقب النقاش الجاري حول مكافحة الإيدز، فالمساعدات الخارجية التي تقدمها أميركا للبلدان المحتاجة تلقي الضوء على سياسة التقشف مع دعوات البعض مثل السيناتور «ران بول» إلى وقف المساعدات الخارجية والتفريق بين المواطن الأميركي الذي يصوت في الانتخابات. وبالتالي يملك النفوذ السياسي، وبين مواطني الدول الفقيرة الذين يتعين عليهم تحمل العبء، وفي جميع الأحوال تمثل حملة «ران بول» المناوئة للمساعدات الخارجية نموذجاً دالاً على الفشل في القيادة وانعدام مواصفاتها لديه. فهو أولاً يفتقد للقدرة على وضع الأمور في حجمها الحقيقي ما دام إجمالي المساعدات الخارجية الأميركية لا تتعدى 1 في المئة من الموازنة الفيدرالية للولايات المتحدة، كما أظهر ضعفاً أمام حساسيات فئة ضيقة داخل الحزب «الجمهوري» ممثلة في المحافظين التي لا تعكس المشاكل العامة للشعب الأميركي، وأخيراً يستهدف السيناتور بحملته تلك بعض أفقر البلدان في العالم فقط لأسباب أيديولوجية ما يفقده البعد الأخلاقي، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على سياسة التقشف وما تطرحه من تحديات بحيث يتعين الموازنة بين ضرورة تقليص حجم الحكومة بسبب الواقع على الأرض، وبين القيام بذلك دون الإخلال بقيم هذه الأمة. ــــــــــــــــــــــــ مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»