تغيّرت معظم قيادات دول مجلس التعاون على مدى الثلاثين عاماً الماضية، وأتت قيادات -في الأغلب- شابة مقارنة بقيادات الماضي، مع اكتمال معظم البنى التحتية للدولة الوطنية، والأخذ بحتميات التطور، بما في ذلك تعديل وتحديث القوانين والتشريعات أو وضع دساتير حديثة تناسب العصر مع دخول هذه الدول إلى فروع الأمم المتحدة المتخصصة وإيمانها بقضايا حقوق الإنسان، وصارت تقدّم كل 4 أعوام تقاريرها الدورية الشاملة ( UPR) حول مدى اقتراب تشريعاتها وممارستها من تلك المُطبقة على المستوى الدولي. رغم الحاجة إلى وضوح أكثر في إعداد تلك التقارير بحيث تشمل جميع مناحي الممارسات. ولكن ظلت بعض التحديات المهمة، التي لو واجهتها هذه الدول بصراحة وشفافية، لاقتربت كثيراً من النموذج الأصلح الذي تتمناه شعوب هذه المنطقة وحكوماتها أيضاً. ولعل أول التحديات التي تواجه هذه الدول هو: مدى نجاح المقاربة بين التحديث -بكافة أشكاله- وبين تبعات الماضي وصوره فيما يتعلق بشؤون الإدارة وتقليدية توزيع الأدوار، بما في ذلك بعض أوجه الممارسة الاجتماعية والمالية التي فرضت نفسها ردحاً من الزمن كنموذج مثَّـلَ تقليداً لا يمكن المَسّ به! رغم أن هذا النموذج قد عارضته دعوات حكومية لاجتثاث الفساد بكافة أنواعه من الممارسة الإدارية، بعد أن تأكدّت أنه لم يؤت أُكلُهُ عندما تم تحديث الإدارة وكشف ممارسات خاطئة فيها. وظهرت مقولات تطالب بالتحول من شكل «السلطة» إلى شكل الدولة! لأن هذه الأخيرة تؤمّنُ نجاحَها المؤسساتُ الراسخة التي لا تتغير خططها وممارستها بتغيّر الأشخاص، بل وتحفظ مسارات الدولة من «تغوّل» الأفراد في الإدارة. والتحدي الثاني هو: مدى قدرة هذه الدول على مواصلة تحقيق الأمن الداخلي بذات الأسلوب المُتبع في الماضي! فمن المعروف أنه كلما زادت مساحة حرية الأفراد ورخائهم الاقتصادي والنفسي، قلّت نسبة المواجهة أو الاصطدام أو الاستياء والتبرم، وهذا ما تنعم به معظم دول مجلس التعاون ولله الحمد، كما تقلصت المسافة بين الحكومات والشعوب، وحلّ التفاهم والتواؤم بين استحقاقات الحقوق وتبعات الواجبات. لقد عُرفَ المجتمع الخليجي ببساطته وتسامحه وولائه لأوطانه. ولم يتأثر هذا المجتمع على مدى التاريخ بأيديولوجيات متطرفة، اللهم إلا الانتماء لأمته العربية ومشاركته آمالها وآلامها، ومحافظته على قيم دينه وتقاليده. كما حافظ هذا المجتمع على نعمة التواصل مع ولاة الأمر، دون حواجز، وهذا خفف كثيراً من إمكانيات التوتر أو الاختناق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. كما أن أغلب حُفاظ الأمن من أبناء هذه الدول، الأمر الذي يُعزز التلاحم الاجتماعي، ويدعم وحدة الانتماء والشعور الواحد في ظل العدالة الاجتماعية وتحقق كرامة الفرد. ومع ظهور تحديات «تصدير» بعض الأيديولوجيات الغريبة إلى هذه الدول، برزت على شكل انتماءات عصبية / إثنية، شطرت بعض المجتمعات، فإن السؤال يلحّ عن مدى قدرة هذه الدول على المحافظة على «الهارموني» الاجتماعي/ السياسي، دون أن يؤدي ذلك «التصدير» إلى حدوث مواجهات لم يألفها المجتمع الخليجي. والتحدي الثالث هو: مدى قدرة المداخيل الكبيرة الناتجة عن تصدير النفط والغاز في مواجهة متطلبات مرحلة التحديث، واحتياجات الشعوب إلى متطلبات الخدمات الأساسية: السكن، الرعاية الصحية، التعليم! توجد نسبة غير قليلة من سكان بعض الدول يعيشون في بيوت مُستأجرة! كما أن هنالك دولاً غنية يعاني بعض مواطنيها من صعوبات في الحصول على الأراضي المُستحقة لهم مع القروض، ناهيك عن ترهل الخدمات الصحية وتعثر إرسال المرضى والبعثات التعليمية إلى الخارج. فهل ستكون هنالك حالات «ترشيد» للإنفاق بما يضمن إسعادَ ورخاءَ المواطن الخليجي وتيسّر أمور حياته ضمن دولة الرخاء؟! والتحدي الرابع هو: تدرج الانتقال إلى الشكل الديمقراطي الذي يضمن المشاركة الشعبية المتدرجة -حسب ظروف كل بلد- غير المندفعة أو المتشنجة التي تحدثُ في بعض الدول! وهذا يفرض إدراكاً مسؤولاً نحو حماية المجتمع من أي شكل من أشكال الانفلات أو المواجهة العنيفة، التي لا يحبذها كثيرون من عقلاء المنطقة، أو التطرف في الانتقال السريع الذي يُحدث الوقيعة بين المطالبين وحكوماتهم، ويغلق الباب أمام أي شكل إيجابي لتلك المشاركة، الأمر الذي يحتاج إلى رؤية حديثة وجريئة تحاكي الواقع وتتبرأ من التاريخ «البطريركي» القديم، حيث يكون كلُ فرد من أفراد المجتمع مسؤولاً عن أمن وطنه واستقراره، وعن مساعدة الحكم في تنفيذ الخطط والمشاريع دون تطرف أو طغيان. وتساهم في ذلك ضرورة قيام مؤسسات المجتمع المدني بأدوارها الأساسية المعروفة. أعتقد أن هذه التحديات الأربعة من أهم التحديات التي تواجه الدولة الوطنية في الخليج، وأن مواجهة هذه التحديات برؤية جديدة ستخلق واقعاً جديداً تكون دول مجلس التعاون عبرهُ نموذجاً يُحتذى لشكل الدولة الوطنية الناجحة. د. أحمد عبدالملك أكاديمي وإعلامي قطري