ما نشهده الآن في مصر من صراع سياسي حاد بين القوى الليبرالية والتيارات الإسلامية على تنوعها هو الثمرة المرة لتعثر مسيرة المرحلة الانتقالية منذ بدايتها. وهذه المرحلة التي بدأت بتولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة للسلطة الفعلية في البلاد كانت تقتضي من شباب الثوار ومن أيدهم من القوى السياسية الأخرى المطالبة بتشكيل مجلس رئاسي يضم الرموز الوطنية الممثلة لكافة الأطياف السياسية في البلاد، يقوم برسم خريطة الانتقال السلمي الآمن من السلطوية إلى الليبرالية لتحقيق أحد أهداف ثورة 25 يناير الأساسية. وفي هذا المجال لم يكن ضرورياً اتباع الطرق التقليدية في الممارسات الديمقراطية المعروفة، وأبرزها إجراء انتخابات للمجالس النيابية، بل إن منطق الثورة كان يقتضي الخروج على هذه التقاليد وابتداع طرق أخرى تحقق «ديمقراطية المشاركة» بين كافة القوى بدلاً من الديمقراطية التمثيلية التي تنهض على أساس صلة الأحزاب السياسية بالشارع، وقدرتها على حشد الأنصار للتصويت لمرشحيها. وبعبارة أخرى كانت الثورة بحاجة إلى حوار ديمقراطي يطرح الأسئلة الرئيسية الخاصة بنظام الحكم في الدولة الديمقراطية المنشودة، وهل تطبق النظام الرئاسي أو النظام البرلماني أو النظام المختلط. وكان لابد من المناقشة المبدئية لسلطات رئيس الجمهورية وتقييدها وتوزيع السلطة بينه وبين رئيس الوزراء والبرلمان. ومن ناحية أخرى فالنظرية الاقتصادية التي سيعتمد عليها النظام السياسي بعد الثورة كانت تستحق مناقشات مستفيضة، وذلك في ضوء النقد العنيف الذي وجه للممارسات الاقتصادية المنحرفة في عهد مبارك، والتي أدت في الواقع إلى إثراء القلة من رجال الأعمال على حساب إفقار عشرات الملايين من أبناء الشعب. وهذا الظلم الاجتماعي البيّن عبرت عنه العبارة التي سجلناها قبل الثورة في أحد البرامج التلفزيونية حين سئلت كيف أصف المشهد الاجتماعي في ذلك الوقت؟ فقلت «منتجعات هنا وعشوائيات هناك»! ألم تكن النظرية الاقتصادية التي ينبغي تطبيقها بعد الثورة وفي إطار الدولة الديمقراطية الجديدة تستحق نقاشاً جاداً تسهم فيه كافة التيارات السياسية، من يؤمن منها بالتوجهات الاشتراكية، ومن يؤمن بالتوجهات الرأسمالية، ومن يدعو للاقتصاد الإسلامي؟ هذا نقاش ضروري خصوصاً بعد أن سقط النموذج الأساسي لليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول الرأسمالية، بعد أن اضطرت الحكومة الأميركية إلى التدخل إثر وقوع الأزمة المالية الكبرى وذلك بضخ مليارات الدولارات لإنقاذ الشركات والبنوك التي أشهرت إفلاسها. ومعنى ذلك ضرورة المراجعة النقدية للنموذج الرأسمالي لإقرار مبدأ ضرورة تدخل الدولة لمراقبة السوق، ولكن لتحديد كيف يتم هذا التدخل بحيث لا يؤثر على الحركة التنافسية للسوق وبدون عودة لمبادئ اقتصاد الأوامر في ظل الاقتصاد الاشتراكي القديم؟ ومن ناحية أخرى كان لابد لهذا المجلس الرئاسي أن يناقش مشكلة تحقيق العدالة الاجتماعية في إطار سياسة جديدة لإحداث التوازن بين الطبقات، بعد أن اختلت الموازين نتيجة لعدم العدالة في توزيع الدخل القومي. وقد لوحظ أن مسألة الهوية من المسائل التي دارت حولها نقاشات متعددة قبل الثورة، وخصوصاً في ظل صعود قوى الإسلام السياسي وتركيزها على «الإسلامية» أياً كان تعريفها، ووضعاً في الاعتبار الاختلافات الجسيمة بين رؤية «الإخوان المسلمين» ورؤية السلفيين ورؤية «الجهاديين» لها. وفي ضوء ذلك ألم تكن تستحق هذه المشكلة نقاشاً متعمقاً بين أعضاء المجلس الرئاسي المقترح للاتفاق على هوية أساسية للمصريين يوضع تعريفها في صلب الدستور الذي ستتم صياغته، والذي من المفروض أن يقوم أساساً على مبدأ «المواطنة» ما دمنا نتحدث عن دستور ديمقراطي؟ لو كنا سرنا في هذا المسار واتفقنا على لجنة تأسيسية منتخبة -على غرار النموذج التونسي- لوضع الدستور لتحاشينا الصراعات الحادة العنيفة التي نجمت عن نتائج استفتاء الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً، وأدت بنا إلى الاندفاع إلى الانتخابات التي فاز بها الحزب الأكثر تنظيماً وتواجداً في الشارع وهو حزب الحرية والعدالة الإخواني متحالفاً في ذلك مع السلفيين، مما أفرز لنا مجالس نيابية للشعب والشورى غير متوازنة في تشكيلها نتيجة لإقصاء شباب الثوار والليبراليين. ولم يحصل «الإخوان» والسلفيون على الأكثرية إلا نتيجة محاولاتهم عبر سنوات طويلة حتى قبل الثورة في مجال تزييف الوعي الاجتماعي لعشرات الملايين من المواطنين الأميين البسطاء، والتأثير فيهم بشعارات دينية مبسطة مثل أن «الإسلام هو الحل» وغيره من الشعارات. وعلى أي الأحوال لا مجال اليوم للندم عن اللبن المسكوب، لأن المسار التقليدي للممارسة السياسية الذي قام على أساس الانتخابات أدى بنا -وخصوصاً بعد انتخاب الدكتور محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة رئيساً للجمهورية، إلى أن تصبح جماعة «الإخوان المسلمين» هي المهيمنة على السلطة في البلاد. وبناء على خطتها في «أخونة» الدولة وأسلمة المجتمع بدأت في وضع كوادرها في مفاصل الدولة الرئيسية، وأضاف إلى صلاحيته تأثيراً على السلطة القضائية. وهكذا -كما ورد في الإعلان- حصن مجلس الشورى والجمعية التأسيسية حتى يمنع المحكمة الدستورية العليا من إصدار أحكامها التي من الممكن أن تقضي ببطلان المجلس واللجنة، بل إنه منع المحاكم من نظر القضايا المطروحة أمامها والتي تتعلق بهذه المؤسسات. وكان رد الفعل المجتمعي إزاء الإعلان هو الرفض القاطع من قبل القوى الثورية والليبرالية واليسارية، بل إن المؤسسة القضائية نفسها انتفضت وقررت بإجماع المحاكم رفض الإعلان الدستوري. وتعليق العمل بالمحاكم حتى يتم إلغاء الإعلان. غير أن الرئيس مرسي تسلم مسودة الدستور المعيبة من المستشار «الغرياني» رئيس اللجنة التأسيسية وقرر إجراء استفتاء على مسودة الدستور يوم 15 ديسمبر. والسؤال المهم هنا: هل يمكن -ديمقراطياً- إجراء استفتاء على الدستور في سياق غير ديمقراطي، وفي وجود إعلان دستوري مضاد للقيم الدستورية والقواعد القانونية، وكيف يمكن إجراء هذا الاستفتاء الباطل في الغيبة الكاملة للتوافق بين الأطياف السياسية المختلفة! وهل يمكن -ديمقراطياً- أن يتم الاستفتاء على الدستور في مناخ تسيطر عليه جماعة «الإخوان المسلمين» باستخدام «البلطجة» السياسية العلنية التي تجلت في حصار المحكمة الدستورية العليا، ومنع قضاتها من ممارسة مهامهم في الحكم، مما اضطرهم إلى تعليق عملها إلى أجل غير مسمى! يبدو أن غرور القوة الذي تملك جماعة «الإخوان المسلمين» جعلها تظن أنها يمكن أن تحكم البلاد بالقوة والعنف، حتى لو كان ذلك عن طريق إرهاب القوى الليبرالية المعارضة. لقد آن أوان أن تدرك «الجماعة» أن هذا وهم باطل، لأن الديمقراطية الصحيحة المقدر لها البقاء والاستمرار تقوم على أساس الحوار والتفاهم السياسي، وليس باستخدام العنف والإرهاب.