في الوقت الذي يصوغ فيه أوباما أجندته للسياسة الخارجية يتعين على الرئيس إدراج استراتيجية حذرة تروم توسيع الحريات في تلك المناطق من العالم، التي ما زالت خاضعة للقمع. فباعتناق مبدأ الحرية ودعمها عالمياً، سيعزز الرئيس المصالح الأميركية كما سيحسن صورته، والتركة التي سيخلفها وراءه كقائد أنجز تغييرات مهمة في أميركا والعالم على حد سواء، لكن وإلى حدود اللحظة، بدا أوباما وكأنه غير متوازن في استخدامه القوة الأميركية للدفع بالتغيير الديمقراطي المنشود. تحدث أوباما بفصاحة في السنة الماضية بوزارة الخارجية والأمم المتحدة عن الدور الحيوي الذي تلعبه الديمقراطية في جلب السلام للعالم، وهو ما أعاد التأكيد عليه عندما بدأ الحراك العربي، حيث اعترف بمشروعية المطالبة بالحرية التي عبرت عنها الشعوب العربية باعتبارها شرطاً أساسياً لتحقيق الازدهار والسلام في المنطقة. وفي حملته الانتخابية للعام الجاري جدد أوباما التزامه بدعم قضية الحرية في مناطق العالم المختلفة، إلا أنه ومن جهة أخرى، وفيما عدا الخطاب الداعم للديمقراطية، أثبتت ممارساته الميدانية أنه مستعد للتفاهم مع أنظمة قمعية... وهكذا أدى اعتقاد أوباما بقدرته على نسج علاقات متوازنة مع خصوم الحرية إلى تبنيه لنظرية إعادة ضبط العلاقة مع روسيا، مقللاً من شأن تجاوزات حقوق الإنسان وانتهاك المعايير الديمقراطية التي شهدتها روسيا تحت قيادة بوتين، كما أفضت به نظريته إلى تجاهل المناشدات التي أطلقها رموز المعارضة الإيرانية عندما نزلوا إلى الشارع احتجاجاً على نتائج الانتخابات الرئاسية في 2009؛ ويبدو أن المسؤولين في إدارة أوباما اعتقدوا، على الأقل في البداية، أن عبء الضغط على الأنظمة الشمولية لتغيير سياساتها يقع على عاتق القوى الإقليمية مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وليس الولايات المتحدة فقط، غير أن هذا النقل للأعباء لم ينجح. وفيما يريد الرئيس أن يُنظر إليه في مجال السياسة الخارجية باعتباره واقعياً تثبت التجربة أن دعم الحرية والمصالح الوطنية يعززان بعضهما البعض. وفي ما يلي بعض تحديات السياسية الخارجية التي يمكن لإدارة أوباما التعامل معها بفعالية من خلال تعزيز الحريات: فالصين تتزعم باقي الدول في مجال الرقابة واستخدام الوسائل المتقدمة للحد من الحريات، واليوم ومع تقلد قيادة جديدة السلطة في بكين في ظل مشاكل متعلقة بالاضطرابات الاجتماعية وغيرها، فإن الوقت قد حان لتذكير السلطة بأن سمعة الحكومة الصينية في العالم لا تُكتسب إلا باحترام حقوق مواطنيها ودعم المؤسسات الحرة، بحيث يتعين على الإدارة تشجيع السلطات الصينية على تعزيز الحريات السياسية، والتنديد كلما حاولت بكين توسيع قبضتها خارج حدودها والإصرار على القطع مع تجاهل المنظمات الدولية لسجل حقوق الإنسان في الصين. وهناك أيضاً روسيا التي أبدى فيها بوتين استخفافاً بالقيم الأميركية بأشكال متعددة، فبعد الاحتجاجات الواسعة التي قادتها ضده المعارضة الروسية واستخدامه للوسائل القمعية لإسكات صوتها، اتهم بوتين واشنطن بتمويل محاولات تغيير النظام في موسكو، وقام بطرد الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، بل عمل على تضييق الخناق على الصحافة والإعلام بعدما تدنت شعبيته لدى الرأي العام، بما فيها خدمات البث الأميركية. أما على الصعيد الخارجي، واصلت روسيا دعمها المخز لنظام الأسد الذي قتل نظامه ما لا يقل عن 40 ألف شخص. وفي هذا السياق يتعين على إدارة أوباما إبراز انزعاجها الشديد من تصرفات بوتين بفرض العقوبات على المسؤولين الروس الضالعين في انتهاكات حقوق الإنسان، لا سيما وأن بوتين يسعى إلى الحد من تدفق المعلومات عبر التلفزيون والإنترنت. ثم هناك الوضع المتدهور في سوريا، فقد انضمت الإدارة الأميركية في العام الماضي إلى جهود حماية المدنيين في ليبيا وفرض منطقة حظر الطيران، ولو أن أوباما جاد فعلاً بشأن منع تكرار مجازر في سوريا شبيهة بتلك التي حدثت في رواندا والبوسنة فإن عليه مراجعة مقاربته المتحفظة إزاء سوريا من خلال فرض منطقة لحظر الطيران ودعم أكبر للمقاتلين الليبراليين بين المعارضة السورية. وبعد مغادرة كلينتون يتعين على أوباما تعيين وزير جديد بسجل واضح في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز مكانة المسؤولين في وزارة الخارجية ممن لهم صوت مسموع في التأكيد على الحرية والديمقراطية كقيم إنسانية عليا، كما عليه توجيه الوكالات الأميركية المسؤولة عن تقديم المساعدات الخارجية لوضع الديمقراطية كمعيار أساسي للاستفادة من تلك المساعدات. وأخيراً يجب على أوباما نفسه تقديم النموذج والمثال من خلال الحديث عن دور الحرية المحوري في إحلال السلام بالعالم، وإدانة كل المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان وعقد لقاءات مع المدافعين عن الحرية. فإدراج مبادرة جادة من أجل الديمقراطية في الأجندة الخارجية لأوباما يجب أن يحظى بالأولوية في وقت تتعزز فيه جرأة القوى المناهضة للديمقراطية وتتعامل باحتقار كبير إزاء الرأي العام الدولي، هذه المبادرة ستغير من مسار أوباما في السياسة الخارجية، والأهم من ذلك أنها ستدخله التاريخ من أبوابه الواسعة باعتباره واحداً من الرؤساء الأميركيين الذين حاربوا قوى القمع والاستبداد مثل روزفيلت وترومان وريجان. --------- ديفيد كرامر مدير مؤسسة «فريدم هاوس» الأميركية ---------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»