آثار التصويت الدولي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 نوفمبر 2012 لصالح قبول فلسطين «كدولة غير عضو»- مراقب بعد أن كانت مجرد كيان تتفاعل على المستوى العالمي والإقليمي، وضعت القضية الفلسطينية في بؤرة الاهتمام مجدداً كقضية شعب ودولة بعد أن كانت مجرد «سوء إدارة» من قبل دولة الاحتلال في جزء من إقليم محتل هو «غزة». ويكاد يكون الاستنتاج السائد بعد هذا القرار أنه نجاح لوضع منظمة التحرير الفلسطينية كمعبر شرعي وحيد عن الشعب الفلسطيني، بعد أن كانت مجرد قضية «حركة مقاومة» بين سكان غزة المضطهدين! ولابد أن الدوائر الفلسطينية المخلصة لقضية نضال الشعب الفلسطيني ككل قد قبلت نتائج عرض القضية في هذا الإطار المحدود مقابل عرضها في العام السابق كحق «في دولة كاملة السيادة» مقابل وجود إسرائيل في الأمم المتحدة، وفشل الجميع في تمريرها بمجلس الأمن كعضو بالجمعية العامة. ومن هنا كان الرضى بالقليل هذا العام، وإنْ كان مسمى «دولة غير عضو ومراقب» هو وضع دولة سويسرا حتى وقت قريب، ثم «دولة الفاتيكان» حتى الآن، ولا يقلل ذلك من قيمة تستطيع «الدولة» تحريكها بقدر ما تتيح لها قوة علاقاتها الدولية. وقد كان التصويت بوجه عام في الجمعية العامة للأمم المتحدة متوقعاً إلى حد كبير، بدءاً من الخيبة المعروفة فى إدارة الرئيس أوباما، ومروراً بتبعية الموقف البريطاني بل والألماني له، ومظهرية الموقف الفرنسي الذي يجيد تسويق الصورة الدولية ، واعتدال موقف عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي المسؤولة ضمناً عن «الرباعية» وأشكال الوسطية غير المسؤولة! وجميع أطراف هذه الدوائر حرصت على ترضية إسرائيل بضرورة النص على أهمية أو أسبقية «التفاوض» بدون شروط. وتظل الدلالة الإيجابية في طرح القضية حتى في هذه الحدود، أنه يجيء في إطار يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، مقترناً بذكرى قرار تقسيم فلسطين الذي كان يقول بقيام «دولتين» عام 1947. ليصبح الأمل النادر الآن وبعد 65 عاماً أن نعود لنفس القرار لترفضه إسرائيل والولايات المتحدة! لكنه بالنسبة للساحة الدولية تجديد للموقف الداعم للشعب الفلسطيني في نضاله، الذي يعتبر هو والمحيط العربي المسؤول الأول عنه بالتأكيد، ولذا فإن التلاعب بهذا المكسب المحدود من قبل المتصارعين في فلسطين يمكن أن يؤدي بالقضية لمزيد من التخلف الذي لا يمكن معالجته إلا بالرضى «بالإمارة الإسلامية في غزة » أو «الإدارة المحلية» authority وفق اتفاقية أوسلو في رام الله ! أو وفق «الأوتونومي» الساداتية الشهيرة للجميع. ولعل تجديد الموقف الأفريقي نفسه بحيويته التي يبدو بها حول القضية الفلسطينية الآن أن يدفع الدوائر الفلسطينية المعنية بالرأي العام العالمي بل والخبرات العالمية، أفريقية وآسيوية لبحث آليات تفعيل العلاقات مع هذه الدوائر في العالم الثالث بعد أن ابتعدت عنها كثيراً في إطار «المبادرات الدولية» أوروبية وأميركية فقط... إن أحداً لا ينسى مشهد دخول ياسر عرفات ووسام نيوما (ناميبيا) لردهات الأمم المتحدة كحركات تحرير مراقبة عام 1974، ورغم أنف الدوائر العالمية المقاومة لهما في ذلك الوقت. وعقبها تقدم نضال الكفاح المسلح في ناميبيا بقيادة حركة «سوابو»، حتى حصلوا على الاستقلال الكامل، بينما أقسم كيسنجر أن أميركا لا يمكن أن تتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية مهما كانت الظروف. وقد حدث ، حتى كانت «أوسلو» هي حد التعامل مع «الفلسطينيين»! ورغم أن الأمور لم تمض سهلة في أفريقيا نفسها، إلا أن الدفع المعنوي ظل سلاح الدبلوماسية الأفريقية مع الفلسطينيين ، فاستقبلت القمة الأفريقية «عرفات» عام 1975 مع « إعلانها قضية فلسطين قضية أفريقية» في كمبالا. وفي نفس الوقت بدأ التدهور في السياسات الأفريقية عموماً مع هيمنة العولمة، فسادت مواقف «الوفاق» مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا، لتتجسد في «التفاوضية» التي قادها «ثابو مبيكي» لعدة سنوات مدعومة بالتدهور الذي ساد السياسات الأفريقية عامة منذ الثمانينيات، وإن كان قد بقي دعم شعب جنوب أفريقيا للقضية الفلسطينية بعديد من صور الدعم «المعنوي» بالطبع، في حدود حالة النضال الفلسطيني نفسه. إن حصول القرار الفلسطيني على 134 صوتاً ضد 9 فقط في الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يخلو من قيمة، وإنْ كان «تغيب» – 41 دولة له دلالته أيضاً. وكان الموقف الأفريقي هنا مشرفاً للقارة إلى حد كبير، فلم يأت اسم من دولها بين المعارضين ، بينما جاءت أسماء خمس دول بين المتغيبين، هي: «الكاميرون، الكونغو الديمقراطية، ومالاوي، ورواندا، وتوجو»، وهنا نفهم هذه المواقف على النحو التالي: فالكونغو ورواندا لاعبان أساسيان الآن مع الولايات المتحدة للحاجة (الكونغو المضطربة) أو بحثاً بإلحاح عن دور الشرطي «رواندا». أما مالاوي فعزلتها تبرر لها الانقياد هنا وهنالك. ويظل ملفتاً موقف عناصر فرانكفونية تماماً مثل الكاميرون وتوجو، بينما فرنسا تتظاهر أمام العرب بالتصريحات العنترية لموازنة اقترابها الكبير في نفس الوقت من إسرائيل. سوف يلفت نظر المصريين والسودانيين بالطبع الموقف الإيجابى لدول حوض النيل مع أية إعادة لتقييم التعامل مع بلاد مثل أثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا بوجه خاص. إن البيانات الصادرة عن الخارجية الجنوب أفريقية والمسؤولين هناك عموماً جديرة بالقراءة مهما حاولت بعض صحف جنوب أفريقيا نقد هذا الاندفاع مع الفلسطينيين. لكنا يجب أن نقدر أن جنوب أفريقيا تعني أيضاً مجتمعاً شعبياً ديمقراطياً قوي الاتجاه مع التحرر الوطني، ويفرض ذلك حتى على الجامعات نفسها، وثمة تفاصيل كثيرة عن المنظمات التي تدعو بل تقود حملة مقاطعة البضائع الإسرائيلية ذات الأصل الفلسطيني (من الأراضي المحتلة)، بل ومقاطعة المساعدات والتبادل مع جامعات إسرائيل ...الخ. وأظن أن ثمة علاقة قوية بين الحركة النشطة في جنوب أفريقيا وطموحها لقيادة الاتحاد الأفريقي بخطاب جديد مع رئيسة المفوضية القوية من جنوب أفريقيا. سأذكر نقطة واحدة من إمكانيات «التطور التصويتي» الأخير، فهو يعطي فلسطين حق عضوية «المحكمة الجنائية الدولية»، ويعني ذلك الكثير في مقاضاة الإجرام الجنائي الإسرائيلي، وهذا شاغل القانونيين. لكن أحد الكتاب نبه إلى أن الفقرة السابعة من لائحة المحكمة تشمل مجالات عن حالة «الأبارتيد» التي تدين أصحابها بما قد ينطبق على إسرائيل أيضاً. وثمة دعم قوي من جنوب أفريقيا، وكتابات «كارتر» و«سمير أمين»، كما كتبنا من قبل عن مواجهة إسرائيل بحملات الاتهام بنظام «الأبارتيد». وهذا ما يغيظ إسرائيل بالفعل وبحدة ، بل إن ثمة تصريحات إسرائيلية أخيرة أنه لا اضطهاد عرقي هناك لأنهم «ساميون» مثل العرب! وكان ذلك دفاعاً ملفتاً، ولعله يلفت نظر أكثر من موقع عربى للتفكير في أبعاده وأسباب صدوره الآن؟ أقول ذلك لأن الخشية أن يكون «المشروع الإسلامي» للشرق الأوسط هو مشروع «الوفاقية» الذي سبق أن ساد الجنوب الأفريقي، ومن ثم يؤدي مشروع «النهضة» و«حماس» وتسارع التوافقات الأخيرة إلى تطويع المنطقة للمخططات المعادية، بينما أملنا أن تؤدي التطورات الأخيرة في غزة والأمم المتحدة إلى إحياء النضالية الفلسطينية في مجالاتها المختلفة.