قد تتنوع أطروحات الإسلام الحزبي، ولكنها في آخر المطاف تصب في هدف مشترك لا تختلف عليه الأحزاب والتيارات جميعاً، وهو تنصيب خليفة للمسلمين وجعل كل مرافق الدولة، بل المجتمع ككل تحت الوصاية الأخلاقية الفكرية الروحية الجبرية. فجميعها جاءت لتشرعن «الأبارتايد» العقدي وتقسيم الشعوب لفئتين فقط حسب تصورهم، فأما الفئة الأولى فالحزب ومن يؤمن بمفاهيمه ويعيش بهديه ومنهجه السلوكي والتعبدي وهي الفئة المنصورة والناجية لتمسكها بالحق والمؤيدة بنصر من الله على من يعاديها، والفئة الثانية هي باقي الشعب، وهم هالكون ولا يزالون يعيشون بممارسات الجاهلية الأولى بالرغم من الحداثة الظاهرة، ولا نصير من جور التعرض للتصفية الفكرية في ظل كهنوت المذهب القهري. فإنْ كانت هناك جدران مثيولوجية عازلة بين الأديان الثلاثة، فإن لديهم آليات العزل الخاصة المبنية على قدسية أدبيات مفكري تلك الأحزاب والأسس السياسية التي بنيت عليها وهم تراثيون في التمسك بالنص الحزبي المفسر للمورث التفسيري للنص القرآني والسنة النبوية. فكيف سيتعاملون مع الجمود بعقول تقدس الجمود آملين في قراءة معاصرة، ولكنها في الواقع قراءة تدعو للقطيعة المعرفية لمن يخالفهم وفق عرف خاص بهم متلاعبين بوعي الشارع وذلك التلاعب قائم على سيكولوجيا الاضطهاد، وأنهم سجنوا وعذبوا لأنهم على حق. ولكن كيف يكونون على حق أو باطل وهم متكلمو العصر الحديث بحيث لا يوجد عمق في فهم أو إنتاج كتب الفقه وفهم الشريعة لديهم، ولا نموذج لكيف يكون حكم الدولة في العصر الحديث، لأنهم ببساطة في الغالب عقليات متقولبة ضمن إطار ما، كتبته أيدي منظريهم، وفي اللاوعي هناك اعتقاد غائر يحمل في طياته معجم «طوباوي» لا علاقة له بالتعايش مع الآخر وإدارك ماهية الواقع الذي نعيش فيه مرتدين عدسات سوداوية، لا ترى غير تكفير المخالف أو إخراجه من القصر العاجي للفئة الناجية وحزب الله المنتصر، وهذا الإسقاط هو أخطر ما تعرضت له أمة الإسلام منذ عصور طويلة من إبادة جماعية انتقائية لكل الآراء والخطابات المخالفة لفكرهم سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية في حسم يقيني، يتسم بالغلو والصنمية الحزبية، الواقفة ضد مبدأ التعددية الفكرية. من يدعون اليوم الإصلاح، يحتاجون للإصلاح وهم في حقيقة الأمر براجماتيون أحاديو الرؤية، يجمهرون مؤيديهم لرفع لافتات إعادة الحكم للشارع والشعب، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك لأن أحزابهم تقوم على أساس الأخوة الحزبية الدينية من منطلق أنهم فئة اختارها الله لهداية البشرية، وكقوة تحرك الشارع لبدء خطوة الألف ميل بتجييش الشعوب وممارسة سياسة فرق تسد، فهو استعمار لا يختلف كثيراً عن الاستعمار الإمبريالي الذي سيطر على جزء كبير من العالم العربي في فترة من الفترات وحاول مسح هوية الشعوب وجعلهم يشعرون بالدونية الحضارية لحدود معينة، فلا يوجد عمل إصلاحي يقوم على نسق فكر ديني مغلق تحوطه السرية، وكيف لهم أن يتحدثوا عن نهضة حضارية وهم يرفضون كل من يخالفهم في فهم وتفسير وممارسة أمور الدين والدنيا. نعم هي صورة قاتمة لواقع تلك الأحزاب، التي أصابها الترهل والصدأ، وذلك الوعي الذي يعتبرونه قدرياً ويؤمنون به ألا وهو أنهم فتية اختارهم رب العباد لإخراج الأمة من كهوف الظلامية المذهبية ليغتسلوا بشمس المعرفة، منصبين أنفسهم أعواداً عقدية كلما زادت احتراقاً تشم رائحته الأنفس دون الأنوف غير مدركين لعجزهم عن استيعاب الحداثة، وتمسكهم بالفاشية الدينية وهم من كانوا يرددون في كل أدبياتهم ومنابرهم بأن لا حزبية في الإسلام، والعمل الحزبي بدعة دخيلة، لأن الشورى وليس غيرها هي النظام الأمثل، وهو معتقد راسخ لديهم، فكيف يعلنون اليوم بأنهم مع التعددية الحزبية بكل أشكالها والتداول السلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، هو خطاب نسخة خاصة معدلة للوصول إلى الفردوس المفقود، كما عبر عنه أحد منظريهم بعد أن أصبح من سكان الجزيرة والفردوس المفقود ليس إلا دولة الخلافة الإسلامية. ويكمن خطر الأحزاب الإسلامية الحركية في اعتقادها بأن المسلمين بعد عهد النبوة والصحابة جهلوا المعنى الأصلي لكلمات الإله، والرب، والدين، وانحرفوا عن التصور الإسلامي لسياسة الحكم، وهم يصرون على حصر الإسلام في فهم التجليات الأصولية، وبما يناسب الحركية الإسلاموية في الفكر. ولماذا كل هذا التواطؤ الأيديولوجي للجهود التبشيرية الحركية، وكل هذه الرمزية الخلاصوية؟ فالإسلام دين يتمتع بالجاذبية لبساطته واحتضانه للطبيعة البشرية الناقصة وتعاليمه نورانية وليست تعزيرية، فهو دين الجماعة والأغلبية ويرفض أن يتفرق المسلمون إلى فرق وطوائف باسم الدين، فما خطبهم في نشر فكر الفقيه التنظيمي، الذي يحفظ عن ظهر قلب، ويعيد إنتاج ما كتبه منظروهم المؤسسون والإصرار على التعرف على الشيء لا المعرفة الحقيقية به، فهم بمثابة مطعم الوجبات الفكرية الإسلامية السريعة، ويريدونه إسلاماً شعبياً بحيث ينشرون أفكارهم وسط الفئات السنية الصغيرة وطلبة الجامعات وفي الأحياء الفقيرة ووسط الطبقات الأقل حظاً في التعليم الديني الممنهج المعتدل، ممارسين ممارسات إمبريالية كانوا ينتقدونها في ما سبق مثل فرنسة الشعوب التي كانت مستعمرة من قبل الفرنسيين على سبيل المثال. أصبح الفكر النقدي للأحزاب الدينية اليوم عند المتحزبين باسم الدين «تابو» يجب أن يتجنبه الجميع، وتشن هذه الأحزاب حرباً إعلامية مبرمجة على كل من يبدي رأيه في مفهوم الخلافة وتوحيد الحاكمية الذي اخترعوه لخدمة أغراض حزبية نفعية. وما أكثر من فرح بتعدد وانتشار الأحزاب والجماعات الإسلامية من أعداء الإسلام الذين يرون فيه تهديداً لقيم حضاراتهم. فالتنظيمات الإسلامية - وهي فرق عديدة متناحرة - تتبنى تفاسير ورؤى تمثل لها وكالات حصرية لفهم الإسلام، وهو فهم لا يلقى قبولاً من عامة المسلمين، مما ينذر بأن يبقى العالم الإسلامي متشرذماً وضعيفاً لقرون طويلة قادمة. تلك التنظيمات البراجماتية تغير من مواقفها ومبادئها وشعاراتها وفق مجريات الظروف المتغيرة على جميع الأصعدة والمستويات والمساحات الجغرافية، لأنهم يتبنون منهجاً سياسياً صرفاً، يفصل بين الدين والسياسة مرحلياً للوصول للهدف وفق منظومة التدرج لديهم. وهم نشطون في تأليف أطروحات جديدة لتجديد الموروث الحزبي الفكري، وبذلك لا يثبتون على موقف سياسي واحد متأسين بالأحزاب الغربية المسيحية الاشتراكية والديمقراطية المدنية في الغرب التي تأخذ من الدين اسمه لا فعله.