شهدت السنوات الأخيرة تزايد الإدراك لفداحة التبعات الصحية والنفسية لبعض المشاكل والظواهر الاجتماعية السلبية مثل إساءة معاملة الأطفال، والعنف المنزلي، والاضطهاد والتمييز ضد المرأة. فعلى سبيل المثال تعتبر إساءة معاملة الأطفال من أهم المحددات الاجتماعية للحالة الصحية البدنية والنفسية في المراحل اللاحقة من العمر، حيث تظهر الإحصائيات والدراسات -وخصوصاً في المجتمعات الغربية- تعرض 20 في المئة من الإناث، وما بين 5 و 10 في المئة من الذكور للاعتداء الجنسي، بينما تتميز المجتمعات الشرقية بمعدلات أعلى من الإساءة البدنية، تصل أحياناً إلى 20 في المئة أو 50 في المئة من الأطفال. ومثل هذه الاعتداءات والإساءات، تنتج عنها إعاقات بدنية وتشوهات نفسية عميقة، تؤثر سلباً على الإنجازات الاجتماعية والمهنية للشخص البالغ إلى درجة قد تعيق المجتمع برمته عن تحقيق التنمية والتطوير في المجالات المختلفة بما في ذلك المجالات الاقتصادية والسياسية. وعلى صعيد العنف المنزلي تظهر الدراسات الطبية أن الأشخاص الذين يتعرضون للعنف البدني أو الإيذاء النفسي يلازمهم شعور بفقدان احترام الذات، أو التحكم في المصير، مما يدفعهم للاكتئاب ويزيد من خطر شعورهم بأفكار انتحارية، أو اضطرابات في الأكل، أو إدمان المخدرات، أو شرب الكحوليات، أو التدخين بشراهة. وهذه السيناريوهات تلاحظ بشكل أكبر بين النساء والأطفال الذين يتعرضون للإيذاء النفسي، وإن كان لا يسلم منها الرجال أيضاً، وخصوصاً أن تعريف الإيذاء النفسي لا يقتصر على السب اللفظي أو التهكم والتحقير فقط، بل يمتد إلى الأفعال التي تسبب الضيق والإحراج والإهانة للآخرين، سواء كان ذلك أمام آخرين أو خلف أبواب مغلقة. وفي السنوات الأخيرة أصبحت الظاهرة الاجتماعية المعروفة بسوء معاملة كبار السن (Elder Maltreatment) تلقى هي الأخرى اهتماماً من قبل المجتمع الطبي، في ظل حقيقة أن ما بين 4 و 6 في المئة من كبار السن يتعرضون لنوع ما من إساءة المعاملة في بيوتهم، وهو ما قد يؤدي إلى إصابات بدنية خطيرة ومشاكل نفسية طويلة الأمد. وللأسف، يتوقع أن تزداد هذه الظاهرة خلال السنوات والعقود القادمة، في ظل التزايد المتسارع لنسبة كبار السن في العديد من الدول، ضمن ما يعرف بظاهرة شيخوخة المجتمعات. حيث تشير التقديرات إلى أن عدد سكان العالم ممن تخطوا سن الستين سيتضاعف من 542 مليوناً عام 1995 إلى 1,2 مليار بحلول عام 2025 أي بعد ثلاثة عشر عاماً فقط. ويمكن تعريف إساءة معاملة كبار السن حسب منظمة الصحة العالمية على أنها الفعل الواحد أو المتكرر، الذي يسبب الأذى أو الضيق لكبار السن، أو غياب الفعل الذي يمنع عنهم الأذى والضيق، ضمن أية علاقة يتوقع فيها الثقة والائتمان. وتأخذ إساءة المعاملة تلك أشكالاً كثيرة، منها؛ العنف البدني، أو العنف الجنسي، أو النفسي، أو العاطفي، أو المالي، أو المادي، بما في ذلك الإهمال، والهجر، وكل ما يؤدي إلى فقدان الاحترام وهدر الكرامة. ولذا تعتبر إساءة معاملة كبار السن من قضايا الصحة العامة المهمة، وانتهاكاً للحقوق الإنسانية الأساسية لهؤلاء الأشخاص. وعلى رغم أنه لا توجد معلومات كافية في الدول النامية والفقيرة يمكن منها الاستدلال منها على مدى وحجم ظاهرة إساءة معاملة كبار السن، إلا أن التقديرات تشير في الدول الصناعية والغنية إلى أن ما بين 4 و 6 في المئة من كبار السن في تلك الدول تعرضوا لإساءة المعاملة في بيوتهم، مع الأخذ في الاعتبار أن كثيراً من كبار السن لا يبلغون عما يتعرضون له من إساءة معاملة لعائلاتهم أو أصدقائهم، أو حتى للسلطات، خوفاً وخشية من رد الفعل والانتقام من قبل من يسيئون معاملتهم. ولا تقتصر إساءة معاملة كبار السن على البيوت والمنازل فقط، بل كثيراً ما تمتد إلى المستشفيات، وبيوت العجزة أو كبار السن، وغيرها من أماكن الرعاية طويلة الأمد. وأمام حجم ومدى انتشار هذه الظاهرة اعتمدت العديد من الاستراتيجيات الهادفة لمنع إساءة معاملة كبار السن، واتخذت الإجراءات الرامية للتخفيف من وطأة تبعاتها. وربما كان أهم هذه الاستراتيجيات والسياسات هو زيادة الوعي العام والمهني من خلال حملات التوعية، وإجراء المسوح الهادفة لتحديد من هم أكثر عرضة لإساءة المعاملة، ومن هم أكثر قابلية لإساءة معاملة الآخرين، بالإضافة إلى توفير الدعم للقائمين على رعاية كبار السن، مثل إجراءات خفض التوتر والضغط الذي يتعرضون له ويدفعهم في لحظات الغضب والانفجار لإساءة معاملة من هم تحت رعايتهم. وهو الهدف الذي من الممكن تحقيقه مثلاً من خلال التدريب الجيد على التعامل مع التوتر، أو توفير بديل للرعاية لمنحهم فترات أو أياماً من الراحة من ضغوط رعاية كبار السن، ومنحهم المعلومات الكافية عن كيفية رعاية المصابين بمرض الزهايمر مثلاً، وهو ما قد يتطلب مجهوداً ضخماً وكامل وقت القائمين على رعاية هؤلاء المرضى. ومما لاشك فيه أن هذه الظاهرة تعتبر ظاهرة معقدة الجوانب، وتتداخل فيها عوامل كثيرة، اجتماعية، ومادية، وشخصية، وهو ما يفرض التعامل مع كل حالة على حدة حسب ظروفها الخاصة، بهدف منع ووقف انتهاك الحقوق الإنسانية لفئة من المجتمع ساعدت في مرحلة ما من تاريخه على ازدهاره وتقدمه، وزرعت الثمار التي تقطفها حالياً بقية طوائفه العمرية.