كانت التجربة الكويتية ولا تزال لافتة إقليمياً وعربياً. ولاشك أنها الآن مدعاة للتفكير، وستبقى جاذبة للمراقبة لفترة قادمة. وفي الأعوام الستة الأخيرة ترسخت عوامل تغيير في بنية العلاقة بين الحكومة ومجلس الأمة. تكاثرت حالات «عدم التعاون» بين الجهتين، بوتيرة متتابعة ومتسارعة، من دون أن تتضح دائماً الأسباب والدوافع والأهداف. فالثابت أن نمط عمل الحكومة وإدارته لم يتبدل جوهرياً، وحافظ على تقاليد وأعراف مستمرة منذ خمسين عاماً، أي منذ ولادة الدستور عام 1962 في حين أن نمط عمل البرلمان شهد تحوّلات راحت تتجذر إلى أن اتخذت أخيراً شكل مواجهة. صحيح أن المجالس المتعاقبة، عدا فترات تعقبها، لم تعدم وجود معارضين ما لبثوا أن أصبحوا رموزاً، وكانوا متأثرين بصعود الناصرية وبالتيارات القومية، إلا أنهم صُدموا بممارسات هذه التيارات في الدول الشقيقة، بل صُدموا أكثر بالتهديدات العراقية لبلدهم إلي أن وصلت إلى حد الغزو والاحتلال. ومنذ بدأ الحراك يظهر أكثر فأكثر في الشارع الكويتي، مطالباً بتقليص الدوائر الانتخابية من خمس وعشرين إلى خمس عام 2006 راحت المعارضة توسع وجودها في البرلمانات الأربعة المتتالية، وزادت من تراصّها وتخضرمها جامعة وجوهاً حضرية وقبلية مع وجوه إسلامية متنوعة، وقد تمكنت في انتخابات فبراير 2012 من إحراز أكثر من ثلثي المقاعد الخمسين في المجلس. كانت هذه المرة الأولى، وكانت إيذاناً بأن المعارضة استفادت من ثغرات النظام المتبع للانتخاب، ومؤشراً إلي أن مزاج المجتمع آخذ بالتغيُّر وأن تسيُّسه بلغ حداً غير مسبوق. وقد أريد لهذا التغيير أن يترجم في تركيبة الحكومة، إذ طلبت المعارضة تسع حقائب، أي النصف زائد واحد. ولكن المحكمة الدستورية رصدت مخالفات في حل برلمان 2009 أواخر عام 2011 وفتحت الطريق لإمكان إعادته، وبالتالي اعتبار برلمان 2012 لاغياً، وفي النهاية اقتضى إلغاء الاثنين والذهاب إلى انتخابات جديدة هي التي أجريت أخيراً مع مطلع شهر ديسمبر الحالي. وقبل ذلك، أصدر أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح «مرسوم الضرورة» الذي غيّر بموجبه قوانين اللعبة الانتخابية. أصبح للناخب صوت واحد يخصصه لاختيار مرشح واحد بدلاً من أربعة. ردّت المعارضة بإعلان مقاطعة الترشيح والتصويت، مدركة أن النظام الجديد سيحول دون عودتها بكتلة كبيرة ومؤثرة داخل البرلمان. بديهي أن ذاك المرسوم عبّر بوضوح عن إرادة مؤسسة الحكم تظهير الاتجاه الآخر في المجتمع، وفرملة صعود المعارضة. في الوقت نفسه تسعى الحكومة أيضاً إلى «برهنة» فارق تشريعي اقتصادي وتنموي، من خلال مجلس متعاون، ويُفترض أن يظهر ذلك سريعاً في المرحلة المقبلة. ولكن أوساط المعارضة، كما أوساط الحكم، لا تعتبر الاقتراع الأخير حلاً للأزمة. فالجانبان ذاهبان إلى حال صراعية، إذ تمكنت المعارضة من قول كلمتها من خلال التظاهر والمقاطعة، كذلك تمكنت السلطة من اجتياز تحدي إجراء الانتخابات والحصول على برلمان لا تشكيك في شرعيته الدستورية، أما شرعيته الشعبية فعليه أن يحصّلها بإنجازاته. أما الصراع الذي يبدو الجانبان متفقين على خوضه بالوسائل السياسية، والسياسية فقط، فسيدفع كلاً منهما إلى بلورة رؤية جديدة واضحة. وثمة تساؤلات تطرح نفسها عما إذا كانت الصيغة التي قام الحكم على أساسها لا تزال صالحة أم تحتاج إلى تعديل، وهل إن هناك حاجة إلى مراجعة الدستور أو توضيح بعض مواده خصوصاً في ما يتعلق بمعايير تأليف الحكومة واختيار وزرائها؟ بين المشاركين في الانتخابات والمقاطعين، فضلاً عن «المشاطعين» المترددين أو رافضي هذا الاستقطاب، تنشأ مرحلة جديدة في التجربة التي شاءها الكويتيون، شعباً وأسرة حاكمة، بمحض إرادتهم. ولعل السمة التي ستهيمن على هذه المرحلة أن ثنائية «الحكم- المعارضة» آخذة في فرض منطقها. ومن شأن الحكم أن يستبق ما هو آتٍ خصوصاً أنه أصبح واضح المعالم: فالمعارضة التي تحولت إلى حركة تجتذب الشباب وتطالب بإصلاحات سياسية تستعد للبقاء في الشارع ورفع سقف مطالبها وصولاً إلى «حكومة برلمانية» أو «حكومة شعبية». المعارضة تعتقد أن أمامها فرصة تاريخية يجب أن تستغلها، لكنها فرصة للحكم أيضاً كي يجري مراجعة عميقة لمفاهيمه وأساليبه.