حرب أخرى على غزة، شرسة ومدمرة وعديمة الرحمة. لكن ما الجديد فيها هذه المرة؟ لقد جاءت حافلة بالخصائص المعتادة التي بتنا نتوقعها من هجمات إسرائيل الدامية على الفلسطينيين. فأولاً، هناك التفاوت الكبير بين الطرفين: فمن جهة هناك الآلة العسكرية المرعبة لدولة في حالة حرب شبه دائمة، ومن جهة أخرى هناك مجموعة من المقاتلين يمتلكون عدداً من الصواريخ تقليدية الصنع، والتي يطلقونها بشكل عشوائي على إسرائيل. وإذا كانت مئات الصواريخ التي أطلقها مقاتلو «حماس» تتسبب عادة في ضرر متواضع ولا تؤثر على نتيجة الحرب، فإنها مع ذلك تؤثر على نفسية العدو. وعلى نحو غير مفاجئ، فإن عدم التناسب في القوة النارية أنتج عدم التناسب في الضرر. الخاصية المشتركة الأخرى في حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين هي الدور الذي تلعبه وسائل الإعلام الغربية. والتي، بعد تجاهل التاريخ والتغاضي عن العلاقة بين السبب والنتيجة، تقدم لقرائها ومشاهديها صورة غير مكتملة مغرقة في التبسيط، صورة لا تمثل تحريفاً وتشويهاً لواقع معقد فحسب، بل ترقى أحياناً إلى التواطؤ. ولنتذكر هنا الدور الذي لعبته وسائل الإعلام قبل الحرب على العراق. ولعل بحث الطريقة التي غطت بها مؤسسة إعلامية رائدة (سي إن إن) الحرب على غزة تكشف بعض أوجه القصور المعتادة. ففي عشرات الحوارات التي أجراها جيش صحافيي «سي إن إن» مع المسؤولين الإسرائيليين، لم يحتو أي منها على أي إشارة إلى الاحتلال. إذ لم يجرؤ أي أحد على السؤال ما إن كان عداء «حماس» لإسرائيل مرده إلى الاحتلال الإسرائيلي والسرقة المستمرة للأراضي الفلسطينية؟ وفي لحظة من اللحظات قال المذيع بيرس مورجان ما لا يقال. فخلال حواره عبر الأقمار الصناعية مع اثنين من زملائه في إسرائيل، أشار إلى عدم التناسب في عدد الضحايا الذين سقطوا على كل جانب وطرح السؤال: من الطرف الذي يوجد في وضع أخلاقي هنا؟ الصحافيان اللذان فاجأتهما جرأة السؤال، تجمدا لبضعة ثوان، قبل أن يقول أحدهما شيئاً يفيد بأنه لا وجود لوضع أخلاقي في الشرق الأوسط! في الديمقراطيات يكفل حكم القانون قرينة البراءة، ويجعل مسؤولية تقديم الدليل على المتهِم. لكن ليس بالنسبة للفلسطينيين. فوسائل الإعلام تعاملهم كمذنبين إلى أن يثبتوا براءتهم. أما ذنبهم، فهو أنهم يكنون مشاعر سيئة لمضطهِدهم، والمسؤولية تقع عليهم ليثبتوا أنه رغم طردهم وسلب ممتلكاتهم واستمرار الاحتلال لأرضهم، فإنهم لا يكنون أي مشاعر عداء لعدوهم. أمر مناف للعقل تماماً! كما كانت ثمة حالات جهل تام، مثلما حدث عندما حاولت مذيعة في «سي إن إن» تثقيف مشاهديها بينما كنا ننتظر خطاب «عباس» في الجمعية العامة للأمم المتحدة. فقد قالت المذيعة في معرض «شرحها» إن السلطة الفلسطينية و«حماس» متنافستان، وقد جاءتا إلى الأمم المتحدة لتقدم كل واحدة منهما وجهة نظرها المنفصلة وتطلب دعم المنظمة الدولية! وعلى نحو غير مفاجئ ربما، فإن كل استطلاعات الرأي العام التي أجريت خلال الحرب وجدت أن أغلبية من المستجوبين تدعم الموقف الإسرائيلي. غير أنه كانت ثمة تغيرات وتطورات جديدة. ففي اليوم الأول للحرب، ذهب رئيس الوزراء المصري إلى غزة ليُظهر تضامنه مع الشعب الفلسطيني، ثم حذت حذوه شخصيات رفيعة أخرى وبدأت الوفود تتقاطر على غزة تباعاً. ولعل أهم درس من الحرب بالنسبة للإسرائيليين هو الأداء الملفت لنظامهم الدفاعي المضاد للصواريخ «القبة الحديدية»، والتي حققت نسبة نجاح بلغت 90 في المئة في ظروف الحرب الحقيقية. وهكذا، فإن الإيرانيين أخذوا علماً بأن صواريخهم لم تعد اليوم تمثل التهديد الذي كانت تمثله من قبل. وقد كان ثمة جديد آخر حول وقف إطلاق النار المتفاوض حوله؛ فأولاً وقبل كل شيء، تم التفاوض حول هذا الاتفاق عبر مساعي الرئيس المصري. فخلافاً لسلفه «مبارك» الذي كان يناهض «حماس»، فإن مرسي يتقاسم معها الانتماء الروحي نفسه. وبموافقته على أن يكون ضامن شروط اتفاق وقف إطلاق النار، فإن مرسي تمكن أيضاً من توسيع شروط الاتفاق حتى تشمل التزاماً من الإسرائيليين بالرفع التدريجي لحصارهم على غزة. الدعم الأميركي لإسرائيل ليس جديداً، لكن يبدو أن أوباما ذهب إلى أبعد من «نداء الواجب»، ليس في تمويل القبة الحديدية وتسهيل اتفاق وقف إطلاق النار فقط. ذلك أن جميع المسؤولين الإسرائيليين أغدقوا الثناء على أوباما. ولم يكن واضحاً أشكال الدعم الأخرى التي قدمها أوباما لإسرائيل؛ لكن يمكن التكهن بأنه قدم دعماً عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً. والواقع أن لدى أوباما فرصة فريدة لاستعمال الرأسمال السياسي الذي اكتسبه مع إسرائيل للدفع برؤيته للسلام في الشرق الأوسط، لاسيما أنه متحرر نسبياً من قيود السياسة الداخلية نظراً لأنه ليس مضطراً للقلق بشأن إعادة انتخابه. لذلك، فهو يستطيع التطلع إلى الأفق والتفكير في مكانته في التاريخ. إن ملامح التسوية السلمية لنزاع فلسطين معروفة بوضوح؛ وكل ما هو مطلوب هو الإرادة السياسية والشجاعة للدفاع عن قناعات المرء. لذلك، على أوباما أن يغتنم الفرصة.