بعد انتهاء الموسم الانتخابي الأميركي وبقاء أوباما رئيساً لولاية ثانية، فإنه من البديهي الجزم بمدى الانقسام الحاد الذي بات يطبع المجتمع الأميركي في ظل الحملات الانتخابية الشرسة التي تهاجم فيه الأطراف بعضها البعض، لا سيما خلال الانتخابات الأخيرة التي وصل فيها الانقسام أوجه. والأمر هناك لا يقتصر على تلك المناورات التكتيكية المعروفة في الصراعات الانتخابية، بل في التباينات الفلسفية الكبرى بشأن قضايا مهمة في السياسة الأميركية الداخلية والخارجية على حد سواء. وبعدما اختار الشعب الأميركي الإدارة الحالية لتسير أموره خلال السنوات الأربع المقبلة، فلا بد من التذكير بالتحديات الخارجية الجوهرية المتعلقة بالسياسات المرحلية، أو تلك الاستراتيجية المرتبطة بالمفاهيم بما فيها تلك الأسئلة الملحة بشأن مستقبل إيران وبرنامجها النووي وما يجري حالياً في سوريا من اضطرابات خطيرة تهدد المنطقة كلها، ثم هناك العلاقة مع روسيا على المدى البعيد، ناهيك عن الأزمة المحتدمة في أوروبا وتأثيراتها المحتملة على الشراكة الأطلسية. ولا ننس أيضاً صعود الصين على الساحة الدولية، علاوة على إشكالات أخرى متصلة بالبيئة والطاقة والانتشار النووي، هذه التحديات جميعها تجعل من التفكير الاستراتيجي أولية قصوى للإدارة الحالية، إذ عدا السياسات المرحلية التي تدير المشاكل اليومية، يتعين علينا إعادة النظر في النظام العالمي الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية التي تسيدت فيه أميركا العالم، حتى وهي تنافس الاتحاد السوفييتي، كما يتعين التركيز على العامل الديموغرافي داخل أميركا والتحولات الجارية في هذا السياق التي من شأنها تغيير ملامح الولايات المتحدة. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة القوة العظمى الأساسية في العالم بإنتاج اقتصادي ناهز 50 في المئة من إجمالي الناتج العالمي، وكان التحدي الجيواستراتيجي الأول حينها حماية أوروبا من الزحف الشيوعي، خاصة في ظل ضعف أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وحاجتها إلى قيادة أميركية نشطة وفعالة. وبموجب هذه القيادة، كانت الولايات المتحدة المسؤولة عن تقديم الحلول مع مشاركة دول أخرى في سياق عام تضع قواعده أميركا، لكن هذا الواقع الذي حكم مرحلة الحرب الباردة لم يعد قائماً اليوم مع انتقال مركز الجاذبية من الأطلسي إلى مناطق أخرى في العالم. ولم يعد الواقع اليوم خاضعاً للحلول والوصفات الأميركية، وهو بالطبع ما يجرنا للحديث عن الصين كقوة صاعدة عالمياً، ففي الوقت الذي يطالب فيه البعض الصين بالالتزام بالقواعد الدولية والمساهمة الفاعلة في تحمل المسؤوليات الدولية تدعو هي فيه إلى إشراكها في صياغة تلك القواعد، هذه الأخيرة لن تكون صنيعة رجل واحد في الصين كما يعتقد البعض، فرغم اتضاح ملامح القيادة الجديدة في بكين بزعامة الرئيس الجديد تشي تجيبينج، تبقى طريقة ممارسة السلطة بعيدة عن الفردية، بل إن الرئيس الأميركي أقدر منه على اتخاذ قرارات تتعلق بالحرب باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، خلافاً للرئيس الصيني الذي عليه تمرير القرارات بالتوافق والرجوع دائماً إلى اللجنة الدائمة في المكتب السياسي للحزب الشيوعي. لذا من الصعب المجازفة والتكهن بما إذا كانت الصين مستعدة للمشاركة في صياغة القواعد القائمة، ذلك أن الأمر يعتمد على تطور الصين داخلياً، وبالخصوص على نوع الحوار الذي سيجري بين الصين والغرب، لا سيما الولايات المتحدة. وعن هذا الموضوع، أي العلاقة المحتملة بين الصين والولايات المتحدة، يمكن عقد مقارنة مشابهة بين بريطانيا وألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى باعتبارها علاقة بين قوة قائمة كتلك التي كانت عليها الإمبراطورية البريطانية، وأخرى صاعدة مثلتها ألمانيا، بحيث بدا حتمياً الصراع والصدام، لكن أيضاً هناك دائماً مجال لاتخاذ قرارات مغايرة، فلو استشرفت القوتان ما انتهت إليه الحرب العالمية الأولى لامتنعتا عن اتخاذ العديد من قراراتهما السابقة، وهو الأمر الذي نعول عليه في العلاقة بين الصين وأميركا من خلال القيادات السياسية المتعقلة. أما فيما يتعلق بالجدل التقليدي حول ماهية السياسة الواقعية وتعريفها والتي يحب البعض نسبها إلي، فإني أوضح أني لست أول من تطرق إليها وإن كنت من المدافعين عنها، فالمشكلة من وجهة نظري كانت دائماً مع الذين يعتبرون القيم كفيلة لوحدها بتدبير العلاقات بين الدول، منتقدين الواقعية لتركيزها الحصري على مراعاة موازين القوى، والحال كما أقول دائماً لا تستطيع قوة ما صياغة سياسية خارجية سليمة دون تحليل الموقف، فإذا لم تستطع تقدير موقفك على نحو سليم ستكون النتيجة ارتكاب الأخطاء. السياسة الخارجية كما أفهمها تتكون من عنصرين اثنين، الأول هو التحليل والثاني هو الوجهة التي تريد للمجتمع أن يسلكها، هذه الوجهة بالطبع تؤثر فيها القيم بحيث لا يمكن بناء سياسة خارجية خالية من القيم، لأن الغرض النهائي من أي سياسة خارجية هو الدفاع عن مصالح الدولة، وفي الدول الديمقراطية لا تنفصل الدولة عن مصالح الشعب بل تتكامل لتعزيز توجهات المجتمع القيمية، لذا ومن هذا المنطلق لا يمكن استبعاد عنصر القيم من السياسة الخارجية مهما بلغت واقعيتها. لكن الرهانات الأميركية ليست مقتصرة على السياسة الخارجية ومفهومها، بل تتعداها إلى ما يجري على الضفة الأخرى من الأطلسي، وتحديداً في الاتحاد الأوروبي، فالأزمة الراهنة التي تعصف بدول الاتحاد تبعث على القلق، كما تدعو إلى إعادة التفكير في النموذج الأوروبي، فشخصياً أتخوف من سياسية التقشف ليس فقط لإعاقتها النمو، بل لتأثيرها السلبي على الديمقراطية في أوروبا. والسؤال هنا هو إلى أي حد يمكن لأوروبا الحفاظ على اندماجها السياسي وفي الوقت نفسه المرور إلى سرعات اقتصادية متباينة؟ وفي هذا السياق يبرز دور ألمانيا التي تتوجه إليها الأنظار، فهي سبق أن قدمت إسهامات مهمة للاتحاد الأوروبي مثل السياسة الزراعية المشتركة وتوحيد الألمانيتين، لكنها اليوم مطالبة أيضاً بتوحيد أوروبا ومنع انفراط عقدها بتقديم المساعدات تلو المساعدات للدول المتعثرة. والحال أن هذه الخطوة خلافاً لنظيراتها السابقة تواجه صعوبة في ترويجها لدى الرأي العام. ومهما يكن الأمر في أوروبا، يبقى الأكيد الدور المحوري لألمانيا في إعادة تشكيل أوروبا سواء في اتجاه اندماج سياسي أكبر تراقب من خلالها موازنات الدول الأعضاء في الاتحاد، أو بفصل اقتصادي تحافظ فيه أوروبا على تماسكها السياسي ضمن عملات أوروبية مختلفة. هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق ومستشار الأمن القومي في إدارة نيكسون ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»