اعتبر رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق «رومانو برودي» المبعوث الأممي في منطقة الساحل الأفريقي أن الحرب الموعودة لـ«تحرير» شمال مالي لا يمكن بدؤها قبل سبتمبر 2013. يأتي هذا التصريح بعد جهود حثيثة ومتواصلة بذلتها المنظمة الاقتصادية لغرب أفريقيا (الإيكواس التي تضم 16 دولة) والاتحاد الأفريقي من أجل بناء تحالف إقليمي ودولي واسع يضمن القضاء على الحالة الانفصالية في منطقة «ازواد»، التي أصبحت في قبضة المجموعات المتطرفة والإرهابية: حركة أنصار الدين (المتشكلة أساساً من قبائل الطوارق) وجماعة «التوحيد والجهاد»، التي تسعى لتأسيس إمارة «طالبانية» في شمال مالي فضلاً عن تنظيم «القاعدة» المسيطر في مدينة «تنبكتو» كبرى مدن الإقليم والعاصمة العلمية والدينية الكبرى لمنطقة الساحل. مسار التدخل الأفريقي في مالي بدا مبكراً منذ الانقلاب الذي أطاح بحكم الرئيس «توماني توري» في 22 مارس 2012، حيث عقدت بلدان «الإيكواس» قمة استثنائية في مدينة أبيدجان بساحل العاج أفضت إلى إطار للحل يقوم على ثلاث نقاط هي: العودة للشرعية الدستورية وتكليف الرئيس البوركينابي بالوساطة في الأزمة السياسية الداخلية، والإعداد لقوة تدخل عسكرية تأهباً لكل الظروف القادمة. وإذا كان النقيب الانقلابي «أمادو هايا سونغو» قد أعاد رسمياً السلطة للمدنيين بتولي رئيس البرلمان السلطة الانتقالية وتكليف رئيس وزراء مستقل بتشكيل حكومة توافقية، فإن الانقلابيين لا يزالون يتحكمون في خيوط القرار ومنافذ الحكم خلف الواجهة المدنية الشرعية. ومع أن مجلس الأمن أصدر بالإجماع بتاريخ 19 أكتوبر 2012 قراره رقم 2071 الذي يحدد إطار التدخل الدولي في الموضوع المالي، إلا أن هذا القرار لا يزال يحتاج إلى قرار مكمل يسمح بالحل العسكري الذي يجري التحضير له. وقد حدد اجتماع مجلس الأمن الأفريقي (التابع للاتحاد الأفريقي) المنعقد يوم 12 يونيو أهدافاً ثلاثة لمهمة منظمة الإيكواس هي:تأمين المؤسسات المالية الانتقالية (في مواجهة خطط وتدخل الانقلابيين)، وإعادة بناء وتأهيل القوات العسكرية والأمنية المالية، وإعادة سلطة الدولة المالية إلى الشمال المنفصل ومحاربة شبكات الإرهاب والجريمة النشطة في تلك المنطقة. في هذا الإطار قرر اجتماع رؤساء منظمة «الإيكواس» في 11 نوفمبر الماضي إرسال قوة عسكرية أفريقية متكونة من 5500 جندي تتكون أساساً من بلدان المجموعة الغرب أفريقية مع الحرص على الانفتاح على بلدان المنطقة الأخرى غير المنتمية للمجموعة في مقدمتها الجزائر وموريتانيا، فضلاً عن القوة الإقليمية الكبرى وهي جنوب أفريقيا. تزامن تحضير الحرب مع مساع من حكومتي الجزائر وبوركينافاسو لدفع الحل السلمي في شمال مالي من خلال الحوار مع المجموعتين القوميتين غير الإرهابيتين:حركة تحرير أزواد التي أعلنت الدولة المستقلة بعد انفصال الشمال، وحركة «أنصار الدين»، التي تغلب على قيادتها العناصر السلفية، التي تبنت في مناطق تحكمها خط «تطبيق الشريعة» (الحدود الجنائية الإسلامية التي يطلق عليها عادة هذه التسمية). وعلى الرغم من الإجماع الإقليمي والدولي الظاهر حول إستراتيجية التدخل في شمال مالي، فإن الأطراف الفاعلة والمعنية بالأزمة المالية ليست في الواقع متفقة في مقاربات وآليات الحل المنشود. فبالنسبة للأطراف الداخلية: يتعين التمييز بين ثلاثة أطراف رئيسية هي:التنظيمات المحلية ذات المطالب القومية (جبهة تحرير ازواد وجماعة أنصار الدين)، وحركات الإرهاب الديني (تنظيم القاعدة في الغرب الإسلامي وجماعة التوحيد والجهاد)، وشبكات الجريمة والتهريب. فإذا كانت المجموعة الأولى طرفاً من الحل السياسي الممكن المتمحور حول معادلة الحكم الذاتي الموسع للإقليم، فإن الجماعات «الجهادية» المتطرفة التي تسعى لإقامة ملاذ آمن في المنطقة تتأهب لحرب استنزاف طويلة على غرار التجربة «الطالبانية» في أفغانستان، في حين يمكن لشبكات الجريمة التأقلم مع نموذج الدولة المالية الفاشلة بحسب مختلف السيناريوهات المطروحة. أما بالنسبة للأطراف الدولية، فلا بد من التمييز بين مصالح واستراتيجيات بلدان المجموعة غرب أفريقية التي تستشعر خطر تمدد المأزق المالي في فضاء مترابط متماثل مكونات البناء السياسي الداخلي للدول التي تتشكل منها المجموعة، ومواقف الأطراف الإقليمية الأخرى، وفي مقدمتها الجزائر الرافضة لمبدأ تدويل الأزمة المالية، وحلها عسكرياً لأسباب داخلية وخلفيات إستراتيجية معروفة، ومواقف الأطراف الدولية التي تتزعمها فرنسا المتحمسة لخيار الحسم العسكري، وإن كانت غير مستعدة للتدخل مباشرة في المستنقع المالي. ومع أن الإدارة الأميركية تدعم علناً الخيار العسكري، إلا أنها غير مطمئنة للخطة الأفريقية– الفرنسية المشتركة وتعتبر المشاركة الجزائرية شرطاً ضرورياً لنجاح مهمة القوات الأفريقية. بيد أن العقبة الكئود التي تواجه إستراتيجية التدخل العسكري في منطقة أزواد تتمثل في المصاعب الجمة التي تواجه الهندسة السياسية الانتقالية داخل دولة مالي التي كانت تقدم في السابق نموذجاً للديمقراطية التعددية الناجحة التي أفضت مرتين متتاليتين للتناوب السلمي على السلطة. فغني عن البيان أنه من دون تنظيم انتخابات تعددية شفافة ونزيهة تنهي الأزمة السياسية الداخلية، لا يمكن الشروع في مفاوضات جادة لحل مشكل منطقة «أزواد» مع ممثلي المجموعات الطارقية والعربية، التي رفعت شعار حق تقرير المصير والانفصال. يمكن القول في نهاية المطاف إن منطقة «أزواد» تحولت بعد تسعة أشهر من انفصالها عن الدولة المركزية إلى قاعدة صلبة لمجموعات الإرهاب والتطرف الديني. وفي حين فشل مشروع الدولة القومية الطارقية الذي اعتمدته «جبهة تحرير أزواد» العلمانية التي لم تعد تسيطر عملياً على أي شبر من شمال مالي، فإن اقتراب جماعة «أنصار الدين» من التنظيمات السلفية الجهادية التي تتقاسم معها راهناً السيطرة على المنطقة قد يفضي إلى بناء تحالف قبلي - أصولي مسلح واسع على غرار الحالة «الطالبانية» في أفغانستان. كان الحاكم الاستعماري الفرنسي لغرب أفريقيا ورئيس الوزراء الأسبق «بيار مسمار» يقول إن «أزواد» هو كردستان أفريقيا وهو القنبلة الموقوتة التي ستفجر منطقة الساحل، وقد بينت الأحداث الأخيرة صحة هذا الاستشراف والتوقع.