تعيش فرنسا هذه الأيام على وقع أزمة مستفحلة في القيادة السياسية سواء تعلق الأمر بالحزب الاشتراكي الحاكم الذي يواجه فيها أولاند، عدداً من المشاكل المرتبطة بالاقتصاد والحياة الاجتماعية للفرنسيين، أو اتصل بالصراعات الداخلية التي تهدد بتفجير حزب المعارضة الاتحاد من أجل حركة شعبية ، فحزب ساركوزي يعيش أزمة خانقة على خلفية المعركة الجارية بين أطرافه والمهددة في حال استمرارها بانهيار الحزب الذي بناه ديجول، وإن كان الحزب بقيادة ساركوزي أجرى تحولاً عميقاً أبعده عن إرث ديجول وتحول مع الزمن إلى مجرد حزب يميني ومحافظ كأي حزب أوروبي آخر. هذا التحول الذي تُوج بقرار ساركوزي إعادة ضم فرنسا إلى الهياكل العسكرية لحلف شمال الأطلسي، وهي الخطوة التي لا شك أزعجت ديجول في قبره؛ وعملياً لم يعد الآن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية يمت بصلة، من الناحية الروحية على الأقل، بمؤسس اليمين الفرنسي ديجول وإرثه العريق، بل تحول إلى حزب يميني تقليدي يمثل مصالح الطبقات الرأسمالية في فرنسا والحساسيات المحافظة في المجتمع المعروفة بمواقفها المناهضة للهجرة. لكن الحزب وأثناء تطوره التاريخي وجد صعوبة في استساغة رئيس مثل ساركوزي بطموحاته غير المحدودة وحركته الدؤوبة ونشاطه المفرط الذي وإن كان ساهم في انتصاره بالرئاسة في المرة الأولى، إلا أنه أيضاً أزعج الفرنسيين لتتدنى شعبيته ويخرج من القصر الرئاسي خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ليبدو الحزب بعد ساركوزي وكأنه جسد بدون رأس، إذ سرعان ما دبت في أوصاله الخلافات حول الزعامة. واليوم يتصارع على زعامة الحزب رجلان يعرفان أن الوصول إلى رئاسة الحزب يمهد الطريق لرئاسة الدولة، لا سيما وأن التوقع السائد ألا يصوت الفرنسيون مرة أخرى على الاشتراكيين في الاستحقاقات الرئاسية لسنة 2017؛ والرجل الأول هو رئيس الحكومة السابق، فرانسوا فيون، بجاذبيته المعهودة وكفاءته الواضحة، أما الخصم الآخر فهو جان فرانسوا كوبيه الذي تولى رئاسة الحزب طيلة الفترة التي اعتلى فيها ساركوزي كرسي الرئاسة، لذا يعرف الرجل جيداً هياكل الحزب الداخلية، وهو شخص قوي ينحدر من أصول رومانية. ورغم الانتخابات الداخلية التي جرت لاختيار خليفة لساركوزي على رأس الحزب، نشب خلاف حاد بين الطرفين حول الفائز، بحيث شكك «فيون» في عملية فرز الأصوات وطالب بإعادتها فيما أصر «كوبيه» على فوزه، وهو ما دفع بساركوزي إلى التدخل للحفاظ على تماسك الحزب في ظل تهديد «فيون» بتشكيل فريق برلماني خاص به، ما يعني بوادر تشكيل حزب جديد، وتكمن خطورة هذه الخطوة في الدعم الذي تحظى به الأحزاب السياسية الفرنسية من قبل الدولة حسب عدد المنتسبين. ولو قدّر لحزب «الاتحاد من أجل حركة شعبية» الانقسام فإنه سيخسر ثلاثة ملايين يورو. لكن الدراما الفرنسية لا تقتصر على الحزب المعارض، بل تمتد إلى أولاند نفسه الذي يبدو أنه يفتقد لبرنامج سياسي واضح، فبعد صعوده إلى الرئاسة حاول تطبيق ما وعد به في حملته الانتخابية من الضغط على الأغنياء وأصحاب الشركات من خلال الضرائب، الأمر الذي دفع عدداً من أصحاب رؤوس الأموال للاحتماء في بروكسل، أو لندن، كما أفزع المستثمرين الأجانب بتلميحات إلى تأميم بعض الشركات الفرنسية، هذا بالإضافة إلى خسارة فرنسا لجدارتها الائتمانية، بل فتح «أولاند» على نفسه جبهة شائكة أخرى بترخيصه الزواج المثلي، رغم إشارة استطلاعات الرأي إلى تحفظ أغلبية الشعب الفرنسي على ذلك، مع ما يفتحه هذا الأمر من قضايا قانونية واجتماعية معقدة مرتبطة بمدى وجاهة تبني تلك الأسر للأبناء وتأثيره على الأطفال من النواحي النفسية والاجتماعية. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس»