قال ديفيد إجناتيوس في «وشنطن بوست» إن الرؤساء الأميركيين اعتادوا منذ حرب عام 1967، أن يستميت اللاعبون في الشرق الأوسط (وبخاصةٍ إسرائيل) في لفت انتباههم في بداية فتراتهم أو نهاياتها، من أجل حسم الأمر لصالحهم، وليس لصالح خصومهم. وعلى هذا القياس فإن إسرائيل دخلت في حرب غزة 2008/2009 في أول فترة أوباما الأولى، وها هي تدخل في حرب ضد غزة ثانيةً في أول فترة أوباما الثانية. لكن هذا ليس رأي أوباما نفسه. فقد أعلن الرئيس الأميركي مراراً، كما أعلنت وزيرة خارجيته عن معارضة الولايات المتحدة ذهاب عباس إلى الأمم المتحدة للحصول على وضع دولة غير عضو في المنظمة الدولية. لكن محمود عباس أبى، وأصر على الذهاب، وذلك لسببين: أنه جرب أوباما ووعوده من قبل ولم يَصدق معه. وهو يعِده من جديد بالعودة للمفاوضات وبوقف الاستيطان إنما من خلال التفاوض مع نتنياهو في شوائك الوضع النهائي! وما وجد عباس ما يدعوه للتصديق هذه المرة، ما دام الرجل ما استطاع فعلَ شيء وهو في أوج قوته في الفترة الأولى. والسبب الثاني للإصرار من جانب عباس هو الوضع الصعب الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، ووصلت إليه إدارته للضفة الغربية في ظل الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان، وتضاؤل الموارد، والحصار، والفشل في إعطاء الفلسطينيين أملاً، أيَّ أمل في الوصول إلى شيء من خلال التفاوض في أيام نتنياهو على الأقل. وكأنما ما كفاه التعاون الإسرائيلي الأميركي في الضغط والتيئيس، فقد جاءته من شماله إنجازات «المقاومة» من «حماس» إلى الجهاديين إلى نصر الله... إلى النظام السوري «الممانع» أيضاً (تصوروا!). لقد تعبت ألسنة الفلسطينيين والعرب من التكرار على الأوروبيين والأميركيين، كلما ذكر هؤلاء صعود الراديكاليات في الشرق الأوسط، الراديكاليات سببها تعذُّر الوصول إلى سلام عادل وشامل من خلال التفاوض السلمي. وكلما ازداد الإرهاب والظلم، كلما سارعت فئات من الشبان لحمل السلاح غيظاً وعضباً ويأساً. والطريف أنه عندما قال عباس قبل شهرين إنه ذاهب إلى الأُمم المتحدة، كما فعل في العام الماضي، كان الثائرون عليه فريقين: الحكومة الإسرائيلية، وحركة «حماس»! قال ليبرمان إن الفلسطينيين إن ذهبوا للأمم المتحدة؛ فإن إسرائيل ستعمل على تدمير السلطة الفلسطينية، ويقول الخبراء إن السخط الإسرائيلي ليس سببه الاعتراف بحد ذاته، إذ هو غير مُلزِم- وإنما سببه التداعيات والآثار. إذ يمكن للسلطة الفلسطينية إن حصلت على وضع الدولة غير العضو، أن تستعين بالمؤسسات الدولية في شتى المجالات، ومنها المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم الإسرائيلية المرتكبة ضد الفلسطينيين، ومن بينها احتمال اللجوء إلى تلك المحكمة في اغتيال عرفات من جانب إسرائيل! أما انزعاج «حماس» من مبادرة عباس، فكان بزعمها لأمرين: لأنها تريد في الأساس دولة على كامل التراب الفلسطيني، وليس في حدود عام 1967، ولأنها تؤمن لبلوغ هذا الهدف بنهج المقاومة، وليس بالأمم المتحدة أو التفاوض مع إسرائيل! ماذا ستفعل إدارة أوباما هذه المرة، وقد عارضت من قبل السلطة الفلسطينية في اليونسكو ودخلت السلطة، كما عارضتها في مجلس الأمن، والآن في الأُمم المتحدة سعياً للحصول على الشرعية الدولية لحل الدولتين؟! ما أظهرت إدارة أوباما عزيمةً في اتباع خطتها لحلّ الدولتين. فقد غزاها نتنياهو في عقر دارها، وحصل على دعم الكونجرس بمجلسيه، وكلما اقتربت انتخابات الرئاسة، كلما صارت الإدارة أكثر تبعية للسياسات الإسرائيلية الرافضة للسلام ولحل الدولتين! إنما هناك من يقول الآن إن ما قبل الانتخابات، ليس كما بعدها. فهناك حاجة للذهاب من انسدادات «القضية» إلى أُفق الدولة، أو يبقى الاستعمار والاستيطان الإسرائيلي من جهة، والراديكالية الإسلامية، والابتزاز الإيراني من جهةٍ ثانية. ويبقى أكثر من ستة ملايين فلسطيني ضائعين بين الداخل المستعمَر، والتشريد واللجوء في الجوار وأرجاء الأرض. والأمر هذه المرة -وبعد حرب غزة- لا يحتمل انتظاراً. وما عادت صفقات «المهادنة» مُتاحةً كما كانت بعد حربي 2006 (إيران+ «حزب الله» ضد إسرائيل) و2008/2009 (إيران+ «حماس» ضد إسرائيل). فقد زال النظام السوري أو يكاد، وتغيرت مصر فضمنت أن لا تنفرد إيران بإدارة «حماس» ورفع راية المقاومة الفلسطينية. وما عاد ممكناً للعرب الصبر على مماطلات أميركا وتعقيد ملفاتها مع إسرائيل، ولن تمتدَّ فترة الانتظار إلى أكثر من ثلاثة أشهُر(بعد الانتخابات الإسرائيلية)، أو سترتفع الصرخة، وهذه المرة من جانب حلفاء الولايات المتحدة، وليس من جانب أعدائها المسرورين بترك الأمور على غواربها: المالكي يحكم في العراق، و«حزب الله» في لبنان، و«حماس» و«الجهاد» في غزة، والجهاديون في سيناء والسودان، والحوثيون في اليمن، ولا ندري مَنْ وأين، ويتحول هؤلاء لمحاصرة سوريا المتغيرة بدلاً من أن تُحاصرهم! وبالطبع، فليست المسألة الفلسطينية على فداحتها، هي التحدي الوحيد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. فهناك الآن الملف النووي الإيراني وتحدياته وتداعياته. وهناك التدخلات الإيرانية لصنع مناطق النفوذ، وتسويغ ذلك بحمل الراية الفلسطينية. وقد اندفعت شعوب الجمهوريات الوراثية العربية في التغيير، وتوشك أن تُغيّر التوجهات الاستراتيجية للمنطقة. وكما تحتاج الولايات المتحدة إلى مخرج من النوويات الإيرانية؛ فإنها تحتاج إلى مخرجٍ من النووي الإسرائيلي بعد حل الدولتين. وهناك بالطبع حاجة لسياسات أُخرى في الخليج. وهناك أيضاً معادلة أو معادلات جديدة في المنطقة: إيران وتركيا والسعودية ومصر وإسرائيل. وقد قامت مدريد (1992-1995) على منظومتين إحداهما للأمن والحدود، والأُخرى للتعاون الاقتصادي، فهل يمكن تصورُ العودة لذلك دون حل المشكلة الفلسطينية. بل هل يمكن نشر الاستقرار دونما حل لهذه المشكلة؟ لقد افتخرت إدارة أوباما بأن حرباً ما جرت أيامها في الشرق الأوسط، لكن ذلك كان على حساب الحلول والمعالجات، ولصالح العودة لحالة اللاحرب واللاسلم التي تعني مهادنة قطاع الطرق أو حتى رشوتهم لكي لا يسرقوا الأفراد، بل الأنظمة والدول! ولا يقتصر الأمر على اللاعبين المحليين والإقليميين. فهناك اللاعبون الدوليون من جديد. فالأوروبيون يريدون تحمل بعض المسؤوليات، وأن يحكوا جلودهم بأظفارهم. والروس يعودون لمصارعة الولايات المتحدة وإن لم تكن هناك حرب بينهما في الأفُق. لقد أظهروا أنيابهم في سوريا، وقد يُظهرونها في مكان آخر. يقول روبرت كابلان في كتابه «لعنة الجغرافيا»، إن الاستراتيجيين بعيدي النظر، يميلون لوجهة النظر القائلة بالتوجه نحو شرق آسيا! فهناك يبزُغُ مستقبل العالم. لكن العالم القديم (أو الشرق الأوسط)، يعني الأصل والهم والإدراك والديانات الثلاث، فما العمل؟ هل يغادر الأميركيون المشرق عجزاً، أم يغادرونه منتصرين، أم يشاركونه لأنهم يعتبرون العالم مسطَّحاً- بحسب توماس فريدمان- لا تنفصل أجزاؤه؟! ما أنهى الخروج (الآمن) من العراق، الاهتمام بالشرق الأوسط. وأحسب أنه حتى في حال حصول تسوية في فلسطين، فإن الاهتمام بالمنطقة (ليس بمعنى منع الحرب فقط، بل وإحلال السلام) سوف يستمر، وبأشكال جديدةٍ إفادةً من التجارب الماضية! إنما المطلوب مع الاهتمام: الفعالية، وهي أمر ما تحقق أيام بوش الابن وأوباما على الأقل!